أكبر من «قرداحي»... أعمق من تصريح
بغض النظر عن قصر النظر السياسي والحماسة المفرطة التي يتم من خلالها تداول موضوع «قرداحي» في وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض الخطابات الشعبوية والأوساط الإعلامية اللبنانية، فإن تقزيم الأزمة وربطها بشعارات فضفاضة لا ينمان إلا عن جهل بحقيقتها وسوء تقدير لأبعادها أو تجاهل مقصود لخطورتها.
صار واضحاً أن الأزمة الدبلوماسية التي استجدت بين معظم دول مجلس التعاون الخليجي والجمهورية اللبنانية هي أبعد وأعمق من السقطة غير الموفقة لوزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي الذي أبدى في برنامج تلفزيوني صور معه قبل توليه منصب الوزير آراء ومواقف اعتبرتها المملكة العربية السعودية ومعها دول الخليج تدخلاً واضحاً بشؤونها الداخلية ومساساً غير مقبول بتوجهاتها الخارجية.ولم يعد خافياً بأن التصريح المستهجن من الإعلامي المخضرم، الذي أصبح وزيراً بفضل شهرته التي اكتسبها على شاشة سعودية، يمثّل قطرة الاكتفاء التي أفاضت كأس الاستياء. فقد عبرت البيانات الصادرة عن وزارات الخارجية للدول المعنية بكل وضوح عن ربط قرار استدعاء سفرائها بسلسلة التراكمات ذات الأبعاد الأمنية والسياسية، وبمجموعة الأفعال والأقوال الصادرة من الجانب اللبناني والتي تشكل تهديداً لأمنها القومي وإساءة لتاريخ العلاقات الأخوية الممتدة بين الشعب اللبناني والشعوب الخليجية.
فالقرار الخليجي يرتبط بالإحباط الممزوج بالغضب، من التوجهات الرسمية للحكومة اللبنانية التي ما انفكّت-كما سابقاتها- عن الترحيب بالدعم الخليجي الرسمي والشعبي، في حين يثبت الواقع أن وجه لبنان يتجه تصريحاً وتلميحاً نحو محور آخر.لقد سبق أن شهدت العلاقات اللبنانية-الخليجية أزمة دبلوماسية مشابهة في ستينيات القرن الماضي حيث كانت المنطقة بأكملها تعيش ظروفاً استثنائية على خلفية "حرب اليمن" وتوجهات الرئيس عبدالناصر وخياراته السياسية والعسكرية، لكن هذه الأزمة التي يؤمل بأن تنتهي بأسرع وقت ممكن، غير مسبوقة في حدتها وفي ترجيح التصعيد فيها وتعدد أساليبه، وبخاصة مع تعّنت وزير الإعلام-ومن يقف خلفه- بعدم الاستقالة أو حتى الاعتذار!ومما يزيد الطين بلة، عجز رئيس الحكومة والتيارات التي تشاطره الرأي أو تتفق مع توجهاته عن إحداث أي تحوير ولو بسيط في مسار الأمور المتجهة نحو الأخطر، فنظراً لحساسية الوضع الداخلي وتبعاً لتعقيدات التركيبة اللبنانية، فإن وجود الحكومة حديثة الولادة ما زال أكثر من ضروري لأسباب ترتبط بارادة خارجية وبدورها المرحلي والمحوري في وقف ما أمكن من انهيار اقتصادي، وتثبيت ما تبقى من استقرار أمني، ورأب الحد الأدنى من الشروخ في بنية الكيان اللبناني السياسية والاجتماعية والسياسية، تمهيداً لإنجاز الانتخابات المأمولة.وبغض النظر عن قصر النظر السياسي والحماسة المفرطة التي يتم من خلالها تداول الموضوع في وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض الخطابات الشعبوية والأوساط الإعلامية اللبنانية، فإن تقزيم الأزمة وربطها بشعارات فضفاضة لا ينمان إلا عن جهل بحقيقتها وسوء تقدير لأبعادها أو تجاهل مقصود لخطورتها. فالمسألة تتجاوز الانحياز للوزير بربط مواقفه- التي لا يملك حق التقرير فيها- بـ"حرية الرأي" تارة أو بـ"الكرامة" طوراً آخر، لأن ذلك سيجابه بشعارات وقناعات مقابلة عنوانها "الوفاء" للدول والشعوب التي شرّعت له أبوابها على صعيد شخصي وقدمت لبلده الكثير من غير مقابل يرتجى.بقراءة هادئة– بعيدة عن أي انحياز ومتجاهلة لأي تصنيف مسبق أو اتهام معلّب- على الحكومة اللبنانية والتيارات السياسية اللبنانية أن تقارب الموضوع بدقة وروية أكثر حكمة من الحماسة الشعبية وأبعد آفاقاً من الأهداف الانتخابية وأوسع مدى من الشعارات المتشنجة أو المواقف المتصلبّة. وفي المقابل فإن الجميع يعي تماماً أن ترك لبنان يتخبط وحده في بحور أزماته التي أسهم سياسيوه فيها بشكل واضح وكبير، تعني تشويها لثوابته الدستورية التي تؤكد عروبة انتمائه، كما تعني فقدان شقيق يعترف الجميع بأهمية مزاياه وخطورة تركيبته، وبخاصة اذا ما استثمر الجوع والفاقة، واستغلت الحاجة لأغراض وأهداف قد تضر لبنان والمحيطين به أو المرتبطين به على المديين المنظور والمتوسط.لا يرتجي الخليجي من لبنان إلا ترحيباً بقدومه سائحاً، وأمناً لسلامته الشخصية، وحفظاً لعقاره في المصيف المختار، وضمانا لمصالحه في الاستثمار، وفي أقصى حد يراهن على نصرة دولته عند المفاصل الكبرى، كما حصل عند احتلال الكويت حيث كان لبنان من أولى الدول التي أعلنت رسمياً إدانتها للغزو العراقي الغاشم.ومن الجهة المقابلة، فإن لبنان كان ولا يزال– بحكم الواقع والأخوّة- مستنداً الى كتف أشقائه العرب لدعم قضاياه في المنصات الدولية، كما أن اقتصاده السياحي والزراعي والصناعي يعتمد بشكل كبير على المساهمة الخليجية المعتبرة، ناهيك عن أن الطاقة البشرية التي يصدّرها تشارك أشقاءه في جهود البناء والتنمية والعمران لبلادهم مقابل تحويلات مالية تشكل مصدر رفد أساسي للاقتصاد الوطني اللبناني، أما على الصعيد الإنساني فحدث ولا حرج عن الوقفات الخليجية مع الشعب اللبناني في كل مراحل أزماته المتكررة.فبدون التقليل من سمو الأواصر الأخوية بين الشعب اللبناني وأشقائه الخليجيين، ومع التسليم بمتانة الروابط الأخلاقية والعرقية والتاريخية التي تجعل من العلاقة بين الشعوب والدول الشقيقة قدراً لا يقبل الاعتراض ووثاقاً لا يقبل الانفصام، فبحسابات المنافع والخسارة من المهم مقاربة الأزمة الحالية بكثير من الحكمة التي تقتضي ألا يكون كلام "الإعلامي-الوزير" تعبيراً واضحاً عن إرادة مسبقة لإبعاد لبنان عن انتمائه الطبيعي وجداناً وتاريخاً وجغرافية، وألا يستخدم "القرداحي"- بمن وبما يمثّل- كمحفز لإطلاق رصاصات الرحمة على طرح الحياد الذي كان من شأن تطبيقه إبعاد هذا الوطن البائس عن صراعات المحاور الكبرى.وفي جميع الأحوال فإن استقالة الوزير "القرداحي" لم تكن ولم تعد كافية لاحتواء الموقف، كما أن تجاوز تداعيات "رمانة الكبتاغون" لم تكن صالحة للتخفيف من ضغط "القلوب المليانة"، وإن استقالة من هنا أو اعتذاراً من هناك قد يسهم في تليين جانب من الموقف أو التخفيف من وطأة بعض القرارات، لكن الأمور أصبحت في مكان تفرض فيه على أهل العقد اتخاذ موقف واضح للحل.فإما أن يكون لبنان عربي الهوية والانتماء، وإما أن يكون باحثاً عن هوية أخرى ومرتمياً في أحضان واقع جديد لن ينسجم بأي حال من الأحوال مع تركيبته المعقدة.* كاتب ومستشار قانوني
● د. بلال عقل الصنديد
لبنان كان ولا يزال مستنداً الى كتف أشقائه العرب لدعم قضاياه في المنصات الدولية