فور الوصول إلى عاصمة جورجيا، لا مفر من ملاحظة استمرار أصداء الحرب الباردة، حيث تكثر مظاهر الحنين إلى الحقبة الشيوعية في شوارع تبليسي الجميلة، ويخيّم شبح ستالين على المكان بكل وضوح، فقد وقعت جورجيا ضحية منافسة إقليمية تاريخية شرسة، وهي تحمل أوجاع روسيا وأرمينيا وأذربيجان في آن، وكأنها لا تواجه ما يكفي من الأزمات الخاصة بها، فأثّرت الحرب في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية على جميع الدول السوفياتية السابقة، لكن تتفاقم هذه الآثار في جورجيا لأن البلد يشهد في الوقت نفسه صراعات متواصلة بين المناطق المجاورة، ونتيجةً لذلك، أصبحت الديموقراطية في جورجيا مُهددة بسبب «الحروب الأبدية» في الداخل وعلى طول الحدود الدولية.

محلياً، لا ينجم غياب الاستقرار عن مكائد «حزب الحلم الجورجي» الحاكم بكل بساطة، بل تكثر المشاكل المتكررة بين جماعات المعارضة الأساسية و«الحركة الوطنية المتحدة»: إنه الحزب الحاكم السابق الذي يقوده الرئيس الأسبق ميخائيل ساكاشفيلي من المنفى. لم يكن عهد ساكاشفيلي خالياً من مظاهر الفساد، لكن يتّهم هذا المعسكر «حزب الحلم الجورجي» الآن بفسادٍ واسع النطاق عبر تسييس القضاء، وقمع وسائل الإعلام المستقلة، ومضايقة مرشّحي المعارضة علناً، لكن قد تكون هذه الادعاءات مبالغاً فيها. كذلك، يجب أن يفسّر الطرفان مزاعم كثيرة حول قضايا فساد مرتبطة بهما.

Ad

أراد ساكاشفيلي مقاطعة البرلمان الجديد الذي نشأ بعد انتخابات عام 2020، وتطلّب الوضع في نهاية المطاف وسيطاً دولياً للتفاوض حول تسوية بين هذه القوى السياسية المتناحرة. توصّل رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، إلى تسوية تجعل «حزب الحلم الجورجي» يوافق على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة إذا حصد أقل من 43% من الأصوات في الانتخابات البلدية في 2 أكتوبر 2021، حيث وقّعت أحزاب معارِضة أصغر حجماً على الاتفاق أيضاً، باستثناء «الحركة الوطنية المتحدة»، وهذا ما دفع الحزب الحاكم إلى اعتبار نفسه الطرف الوحيد الذي يقدم التنازلات من دون أي مقابل. يتابع البعض تفسير الوضع السياسي في جورجيا من الناحية الجيوسياسية، فيتّضح دوماً تدخّل موسكو في شؤون البلد، كما لم تنشأ أي علاقات دبلوماسية رسمية بين روسيا وجورجيا منذ الحرب في عام 2008، ومن المستبعد أن يتغير هذا الوضع طالما تستمر المواجهات بسبب أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

لم يفوّت وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أي فرصة للتعليق على الأحداث الحاصلة، فقال إن المجال مفتوح أمام جورجيا دوماً لتحسين العلاقات، لكنه لم يطرح أي مسار لتحقيق هذا الهدف، ولا يحاول مؤسس «حزب الحلم الجورجي»، بيدزينا إيفانيشفيلي، ورئيس الوزراء إيراكلي غاريباشفيلي التصدي لروسيا، بما يشبه العلاقات التي تجمع بين أذربيجان وتركيا والدول الغربية. تحالف ساكاشفيلي مع رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، حتى أنه دعاه إلى جورجيا في عام 2012، وعملياً، يبدو أن صمود النظام يتفوق على جميع الاعتبارات الأخرى، بما في ذلك المساعدات المالية الكبرى، ويبدو أن استراتيجية غاريباشفيلي وأسياده تقضي بتحقيق مجموعة محددة من الأهداف: السيطرة على وسائل الإعلام وسلك القضاء والانتخابات، واستمالة الرأي العام عبر التكلم عن «القيم الجورجية» نظراً إلى مخاوف ساكاشفيلي من التهاء الناس بمسائل أخرى، والحفاظ على علاقات فاعلة مع واشنطن وبروكسل لكن من دون حرق جميع الجسور السياسية مع موسكو.

يصعب أن نعرف إلى أي حد يصدّق الشعب الجورجي هذه الرسالة، فقد توصّل استطلاع «المعهد الديموقراطي الوطني» في يوليو 2021 إلى نتائج واقعية، فاعترف 51% من المشاركين بأن «جورجيا ليست ديموقراطية»، كذلك، يسود استياء سياسي واسع وقلة ثقة بالمؤسسات السياسية، ووفق الاستطلاع نفسه، اقتصرت نسبة المشاركين الذين عبّروا عن دعمهم لحزب سياسي معيّن على 30%، وفي الوقت نفسه، لا تزال مشاكل البطالة والرعاية الاجتماعية قائمة، ويبدو أن هذه المسائل تُضعِف مواقف السياسيين من مختلف الانتماءات في جورجيا، ومن الإيجابي أن تشمل الانتخابات المحلية المرتقبة عدداً من المرشحين المستقلين، ويبدو كاخا كلادزي من «حزب الحلم الجورجي» الأوفر حظاً في هذا الاستحقاق، لكن إذا حقق المستقلون نتيجة جيدة، يمكن القول حينها إن «التقارير التي تنذر بموت الديموقراطية الجورجية مبالغ فيها بعض الشيء».

لكن يلفت المستقلون سريعاً إلى استحالة أن يفرضوا نفوذهم في البرلمان بسبب نظام حُكم الأغلبية القائم، وهم يتّهمون رئيس الوزراء بيدزينا إيفانيشفيلي، الذي أصبح مليارديراً بفضل روسيا، بإدارة حكومة ظل، ومن المتوقع أن يفشل أي حزب يطرح برنامجاً موالياً لروسيا في جورجيا لأن روسيا غزت البلد في عام 2008 ولا تزال تحتل 20% من أراضيه، لكن انتشرت تُهَم أيضاً بوجود علاقات غامضة بين إيفانيشفيلي والكرملين، ويبدو الواقع أكثر غرابة من الخيال أحياناً!

منذ الاستقلال، شهدت جورجيا تحولاً عنيفاً من دولة سوفياتية سابقة وغارقة في الحرب إلى نموذج إقليمي لبناء المؤسسات الديموقراطية والتكامل مع الغرب، ويشمل هذا البلد الصغير من منطقة القوقاز أقل من 4 ملايين نسمة وبالكاد كان يستطيع تأمين حاجات مواطنيه اليومية من الكهرباء والمياه، لكنه يطمح اليوم للانتساب إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، كما أحرزت جورجيا تقدماً بارزاً منذ انتخاب رئيسها الأول زفياد جامساخورديا الموالي للغرب في عام 1991، علماً أنه عاد وسقط خلال انقلاب عنيف تزامناً مع حرب أهلية امتدت على سنتين، ثم وصل خصمه اللدود إدوارد شيفرنادزه إلى السلطة وامتد عهده على ثماني سنوات، بين العامين 1995 و2003، لكن كانت هذه الفترة مليئة بفضائح الفساد والركود الاقتصادي والسياسي.

أجبر شعب جورجيا شيفرنادزه على التنحي من السلطة بطريقة مخزية في عام 2003، بعد حصول انتهاكات فاضحة في الانتخابات، ثم دعم المواطنون ميخائيل ساكاشفيلي الذي قرّب جورجيا من محور الغرب، لكنه واجه صراعاً شاملاً مع روسيا في عام 2008، فاضطر للتنحي أيضاً في عام 2012 واتُّهِم باستغلال السلطة غيابياً، لكن يثبت هذا الحدث بحد ذاته تحسّن مفاهيم الحُكم في جورجيا، وربما يحتاج البلد اليوم إلى ائتلاف حكومي، يحذّر قادة المجتمع المدني وأحزاب المعارضة من تنامي استياء سكان جورجيا وتعبهم من الصراعات المستمرة على السلطة، ويُعتبر استقرار البلد عاملاً أساسياً لحماية المنطقة كلها، ومع ذلك لا يلتزم القادة السياسيون المحليون بالمعايير الديموقراطية الحقيقية لأخذ المجازفات السياسية اللازمة، ويحاول كل طرف حتى الآن تضييق الخناق على الطرف الآخر مع أن التركيبة السياسية في جورجيا تتطلب شكلاً من الائتلاف.

حقق «حزب الحلم الجورجي» الحاكم انتصاراً مقنعاً في انتخابات أكتوبر المحلية التي اعتُبِرت على نطاق واسع استفتاءً حول السلطات الراهنة، لكنّ هذا الفوز لن ينتج أي حكومة، وحتى الانتخابات المقبلة بعد شهر لن تنجح في تحقيق هذا الهدف، كذلك، يثبت اعتقال الرئيس السابق ميخائيل ساكاشفيلي أن التوتر السياسي السائد سيستمر، ووفق اتفاق أدى فيه الاتحاد الأوروبي دور الوساطة في أبريل 2021 لحل أزمة جورجيا السياسية القديمة، ستحصل انتخابات برلمانية مبكرة في عام 2022 إذا فشل «حزب الحلم الجورجي» في حصد 43% من الأصوات على الأقل في الانتخابات المحلية التي جرت أوائل أكتوبر، وبناءً على النتائج الأولية التي أصدرتها «لجنة الانتخابات المركزية»، تجاوز الحزب الحاكم هذه العتبة بسهولة وحصد 46.7% من الأصوات، لكن تبرز الحاجة إلى إجراء جولة ثانية، وقد لا تكون النتيجة حاسمة حينها أيضاً.

أدى اعتقال ساكاشفيلي إلى تأجيج المخاوف الدولية، وقد يُمهّد هذا الحدث لتعميق الانقسامات الداخلية في المجتمع الجورجي في حين يستعد البلد لسلسلة من الاستحقاقات الانتخابية خلال الجولة الثانية في مدن كبرى، منها تبليسي، حيث شكّلت الانتخابات المحلية فرصة لإثبات نشوء روحية ديموقراطية جديدة في جورجيا، لكن النتيجة كانت معاكسة. توصّل فريق «مكتب المؤسسات الديموقراطية وحقوق الإنسان» إلى استنتاج واضح لكن شائك، فهو لم يعتبر النتيجة باطلة، لكنه رصد شوائب عدة مثل «انتشار ادعاءات متكررة حول حصول ممارسات ترهيب، وشراء الأصوات، والضغط على المرشحين والناخبين، وعدم تساوي الفرص بين جميع الأطراف».

كذلك، ذكر الفريق نفسه أن «الإطار القانوني يسمح عموماً بإجراء انتخابات ديموقراطية وأن التحضيرات للانتخابات كانت شفافة وخضعت لإدارة احترافية»، لكنه دان «ممارسات الترهيب والعنف ضد الصحافيين»، و«اختلال التوازن على مستوى الموارد، وغياب الإشراف الكافي على طرق تمويل الحملات الانتخابية، وتفوّق الأسماء التي تتولى مناصب معينة راهناً». على صعيد آخر، اعترف فريق «مكتب المؤسسات الديموقراطية وحقوق الإنسان» بمسار الانتخابات «المنظّم والشفاف»، لكنه أشار أيضاً إلى انتهاكات أخرى، منها «تأثير جماعات من الأفراد على الناخبين خارج مراكز الاقتراع». كانت أطراف معينة في «حزب الحلم الجورجي» و«الحركة الوطنية المتحدة» وأحزاب أخرى قد تكلمت عن حصول تزوير أيضاً.

من المستبعد أن تسود روح تصالحية جديدة تمهيداً لبناء ائتلاف حاكم خلال شهر واحد، بل إن السياسيين في جورجيا قد يكونون أكثر ميلاً إلى خوض معركة شرسة أخرى فوق جثة الديموقراطية المتداعية.

مارتن دافي – إنترناشيونال ريليشنز