في خطوة جديدة أعادت مها البرجس مرحلة مهمة من تاريخ والدها، بتوثيق تجربته في تأسيس وإدارة وكالة الأنباء الكويتية «كونا»، فضلاً عن الجوانب الإعلامية الأخرى ذات الصلة بهذا الدور. كتاب «السدرة وحكاية كونا» والصادر حديثاً عن دار ذات السلاسل للنشر والتوزيع يروي قصة الوكالة وتأسيس البرجس لها ثلاث مرات، الأولى عام 1976 ثم العودة إلى تأسيسها في لندن بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990، ثم الثالثة بعد التحرير عام 1991.
بذلت الزميلة مها البرجس جهوداً مضنية على مدار سنوات «في تجميع الأوراق» وتوثيق الأحداث وتسجيل اللقاءات ومتابعة كل ما يتصل بالمرحلة التي عمل فيها والدها في «كونا»، فقد التقت عدداً من أصدقائه وآخرين من العاملين معه في الوكالة والمعاصرين له. الكتاب أشبه بسيرة موثقة ومطولة لتاريخ «كونا» بقدر ما هو إبحار في تاريخ مؤسسها وراعيها... يحتوي الكتاب على ستة فصول، يسرد أولها الانطلاقة الأولى والتأسيس، ويتناول الثاني الدور السياسي والرسالة الإعلامية، ويتحدث الثالث عن صوت الكويت من لندن، ويدور الرابع حول التأسيس الثالث، أما الخامس فيدور حول مواجهات الدور الإعلامي وتحدياته، في حين يضم السادس آراء حرة، وملفات الأبحاث مع ملحق ووثائق. اخترنا من هذا الكتاب بعض المواد التي تتعلق بمرحلة التأسيس وكيف بنيت الوكالة، وهي المرحلة الأصعب والأدق نظراً لما تتطلبه من أعباء ومستلزمات كي تنهض بمهمتها. تبنى أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد مشروع تأسيس وكالة أنباء كويتية عندما كان ولياً للعهد ورئيساً لمجلس الوزراء، وكلف وزارة الإعلام بالعمل على تفاصيله. وزير الإعلام وقتها، الشيخ جابر العلي طلب من الوكيل المساعد لشؤون التلفزيون محمد السنعوسي أن يختار من الموظفين الكويتيين في الوزارة من هو مؤهل للقيام بوضع تفاصيل المشروع، فكان ان وقع اختياره على أحمد دشتي، الشاب الكويتي العائد من الولايات المتحدة حاملاً شهادة الماجستير في الإعلام. كان هذا في عام 1975. وجرى تداول العديد من الأسماء المرشحة لقيادة المؤسسة العتيدة المقترحة، قبل أن يتردد اسم برجس البرجس في أروقة الوزارة. كان أحمد دشتي معجبا بهوامش الحرية والاستقلالية التي يتمتع بها الإعلام الأميركي وكان يريد مؤسسة كمؤسساته، ولذا تحفظ بشأن مرشح من الجهاز البيروقراطي للدولة، واعتقد أن مقترح تعيين مدير للوكالة يكون تابعاً لوزارة الإعلام من شأنه أن يقوض مسعى إنشاء مؤسسة تستطيع المنافسة، وكان يصر على أن تكون الوكالة مؤسسة عامة لها شخصيتها الاعتبارية، ولا تكون تابعة لديوان الموظفين أو ديوان المحاسبة . وتفاوتت مواقف نواب مجلس الأمة من الوكالة المقترحة حينما طرح مشروع تأسيسها على مجلس الأمة في 15/7/1975، فبعد أن تلا سالم المرزوق مقرر لجنة التعليم والثقافة والإعلام مشروع القانون، تحدث المرحوم خالد المسعود الذي رأى أن المواطن لا يريد وكالة أنباء وليس بحاجة إليها، بينما أكد النائب خلف العتيبي ضرورة وجود وكالة أنباء لنقل الخبر الصادق للمواطنين، معتبراً أن الأجهزة الإعلامية في الكويت والوطن العربي مقصرة، ولا تصل إلى مستوى الأجهزة العالمية والصهيونية التي تحارب الأمة العربية. وتوزعت آراء بقية النواب بين رافض للفكرة من أساسها ومؤيد ومتحفظ يضع شروطاً لابد من توافرها قبل أن يقول نعم؛ فتمنى النائب اسماعيل دشتي أن تكون الوكالة مستقلة عن أي نفوذ حتى تتمكن من تقديم ونقل الأخبار من دون تحيز، وأعرب حبيب جوهر حيات عن أمله أن تمثل الكويت تمثيلا صحيحاً، وعلق جاسم القطامي تأييده على معرفة مدى استقلاليتها، وقال إنه سيحجب الثقة عن الوكالة إذا كانت تابعة لوزير الإعلام. ووقف د. أحمد الخطيب موقفاً رافضاً لتأسيس الوكالة على أساس انه إذا كان الغرض منها نشر أخبار الدولة، فلا حاجة إليها لأن لدى الدولة أجهزة إعلامها من تلفزيون وإذاعة وصحافة، أما إذا كانت وكالة عالمية تتنافس مع غيرها فنحن - كما قال - نفتقر إلى الأجهزة الفنية التي تستطيع المنافسة، ورأى أنه لا داعي للقيام بمهمة نعجز عن القيام بها. وشارك أحمد دشتي في النقاش رداً على بعض الاستفسارات وأبرزها استفسار جاسم الخرافي حول الوضع المالي الذي لم يرد تفصيل له في المذكرة التفسيرية ولا في البنود، باستثناء مادة واحدة تبين أن موارد الوكالة تؤخذ من ميزانية الدولة، فأوضح أن مشروع الوكالة هو مشروع مؤسسة عامة، وطبيعة عملها على شكل مؤسسة تتطلب أن تكون على نمط المؤسسات التجارية، وتستثنى من الخضوع للجنة المناقصات المركزية، وحين يقر قانونها تخضع للرقابة اللاحقة لديوان المحاسبة. وأضاف ان الوكالة ستصبح مؤسسة مستقلة بعد صدور القانون، ولها كادر خاص. وانتهى النقاش برفض المشروع، فذهب أحمد دشتي برفقة وكيل الوزارة سعدون الجاسم إلى ولي العهد ورئيس الوزراء آنذاك الشيخ جابر الأحمد، فاقترح عليه التركيز على مشروع إنشاء وكالة أنباء لدول الخليج العربية الذي كان مطروحاً في نفس الفترة الزمنية تقريباً. وأطلق على هذه الوكالة اسم وكالة أنباء الخليج العربي، فثارت ثائرة إيران واعترضت بلهجة قوية، ما قاد إلى تعديل الاسم ليصبح وكالة انباء الخليج. وفي عام 1976، وبعد أن تم حل مجلس الأمة، رفع وزير الإعلام الشيخ جابر العلي إلى الحكومة مشروع مرسوم بقانون بإنشاء وكالة أنباء كويتية.في تلك الفترة كان برجس البرجس قد طلب اعفاءه من مهامه كوكيل لوزارة الصحة. وكلف حينها، الشيخ جابر الاحمد ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، مدير مكتبه الخاص المرحوم عبد العزيز المشاري بأن يستدعي البرجس ليسأله عن سبب استقالته، فقال له ان الوزارة فيها خلافات ومن الافضل افساح المجال للدكتور عبد الرحمن العوضي لقيادتها لأنه «أكفأ مني» بحسب تعبيره. لم يقتنع الشيخ بالسبب، فرد عليه بأنه لم يأت ليشكو أحدا «ولكن اريد اعفائي من المنصب وان اعمل عملاً حراً يريحني». رد عليه الشيخ جابر: «أريدك عندي في المكتب» فاجابه بأن رمضان على الابواب وليس لي قدرة، فقال له الشيخ: خذ شهرين راحة، وبعد شهر رمضان أرسل في طلبه، وكان برجس قد حسم موقفه من عرض الشيخ جابر وأكده في اللقاء قائلا إنه لا يستطيع العمل في مكتب الشيخ، فما كان من الأخير إلا أن قال « يبدو عليك الإرهاق» ومدد له الاجازة ثلاثة أشهر أخرى ليرتاح. بقي الوضع معلقاً طوال تلك الفترة، الى ان رفض مجلس الامة مشروع انشاء الوكالة، وعندما حل مجلس الأمة طلب منه الشيخ جابر العلي تولي مهمة تأسيس وكالة الانباء الكويتية.قال له بعبارة واضحة: أريدك أن تستلم وكالة الأنباء الكويتيةفقال: هذا ليس مجال عملي وأصر الشيخ جابر العلي على تكليفه بهذه المسؤولية، وأضاف: فكّر بالأمر ملياً إلا أنه، وبعد بضعة أيام، لم يجد في ذهنه ما يضيفه إلى ما سبق أن قاله، وظل الأمر معلقاً، إلى أن طلبه ولي العهد ثانية، ليس للعمل في مكتبه هذه المرة، بل لتأسيس الوكالة. وكرر، حسب روايته، القول إن هذا ليس مجال عمله، وأنه لا خبرة لديه في هذا المجال، وعبر عن خشيته من الفشل، وأن يكون سبباً في إهدار الوقت، إلا أن ولي العهد، بعد أن استمع إليه وهو يقدم أعذاره، قال بهدوء بالغ:«أريدك أنت بالذات، وإذا فشلتَ فسأكون أنا المسؤول... ألا تستطيع القيام بواجبك الوطني؟»هنا شعر بأن أعذاره لم تعد ذات قيمة، ولم يجد سبباً للرفض مادام مستعداً للقيام بواجبه كما اعتاد طوال حياته، فقال: «والله.. أنا مستعد»«إذاً، اقبل مسؤولية تأسيس الوكالة».ومع ذلك، ظل متهيباً، فطلب يومين للتفكير، إلا أن ولي العهد حسم قراره:«.. ولا يوم.. اعتبر الموضوع منتهياً»وهكذا كان. فبعد أن تداول الأمر مع صديقيه العم جاسم الصقر والخال يعقوب الحميضي، قرر التوكل على الله، وعاد إلى لقاء ولي العهد بطلب منه. وفي هذا اللقاء، وبعد أن أصبح أمر الوكالة محسوماً، أوضح له أهمية الإعلام، وقص عليه حكايات لأشهر الإعلاميين في التاريخ، مشددا على دور الإعلام في التعريف بأنشطة الدول وسياساتها ومواقفها، وعلى ضرورة إبراز دور الشعب في الرسالة الإعلامية. وكان يتحدث بكل ذلك وقد سكن ذهنه هاجس آخر رأى من الملح أن يفصح عنه للشيخ فقال له: «ياطويل العمر... لي طلب واحد هو مساعدة سموكم، فلكي أستطيع عمل كل هذا أتمنى على سموكم أن تكون وكالة الأنباء مستقلة، لديها حرية واستقلالية، ألا تكون تابعة لوزارة الإعلام؛ وتشبه محطة بي بي سي البريطانية».إثر ذلك صدر المرسوم الأميري بقانون رقم 70 القاضي بتأسيس وكالة الأنباء الكويتية في 13 شوال من عام 1396 هجرية، الموافق السادس من أكتوبر عام 1976، ونص في مادته الأولى على أن تنشأ مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية باسم «وكالة الأنباء الكويتية»، ويشرف عليها وزير الإعلام. وروعي في المرسوم إعطاؤها قدرا كبيرا من الاستقلالية من حيث المواد التي تتضمنها وطبيعة الكيان القانوني لها وألحقت بالمرسوم مذكرة تفسيرية جاء فيها:«نظراً لما للكويت من موقع هام في المشرق والخليج العربيين، ونظراً لما لمنطقة الشرق الأوسط وما للبلاد العربية فيها بشكل خاص من أهمية بالغة من النواحي الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية لوقوع هذه المنطقة عند التقاء ثلاث قارات، ولما حباها الله من ثروات وخيرات، ونظراً لما للدعاية الاستعمارية والصهيونية المضللة التي تشوه الحقائق من أثر فعال في تكوين الرأي العام العالمي، فقد رؤي إنشاء وكالة أنباء كويتية، وذلك بغرض تجميع الأخبار والمواد الإخبارية لعرض الحقائق وتوزيع هذه المواد على مؤسسات الأخبار والأفراد، لتزويدها بأكبر قدر ممكن من الخدمات الإخبارية الكاملة غير المتحيزة، لمجابهة الدعايات المضللة، ولسد الفراغ الموجود في ميدان استقاء الأخبار في المنطقة، ونقلها إلى الرأي العام العالمي بصدق ونزاهة».وصدر مرسوم بندبه من وزارة الصحة ليكون مديراً عاماً لوكالة الأنباء الكويتية بتاريخ 23 اكتوبر 1976، وفي 11 سبتمبر من عام 1977، صدر مرسوم أميري بتعيينه مديرا عاما لوكالة الأنباء الكويتية بدرجة وكيل وزارة.وفي مكتب وزير الإعلام الذي طلبه بعد صدور المرسوم دار حوار معه في الوقت الذي بدأ يفكر فيه بكيفية تنفيذ وظيفة تأسيس. طلب منه الشيخ جابر العلي أن يكون مكتب مدير عام الوكالة إلى جانب مكتبه في مبنى الوزارة، فرفض، وأخبره أنه اختار الدور الأول في مبنى يقع في قلب العاصمة، ليكون مقراً للوكالة الوليدة.
البرجس ودشتي
لم يكن أحمد دشتي على سابق معرفة شخصية بأبي خالد، لكنه بالتأكيد كان قد سمع عنه الكثير. لذا، وفي أول لقاء جمع الاثنين، وكان فريد أبو بكر ثالثهما، في الشقة الكائنة في الطابق الأول من «عمارة النقيب» القريبة من فندق شيراتون، التي اسـتأجرها برجس لتكون مكتبا للوكالة الوليدة، بادر دشتي البرجس قائلاً: «ضع يدك بيدي، أنت رجل لديه خبرة في الجوانب الإدارية في الدولة ولديك تجارب وأنا إعلامي متخصص، لنعمل سوياً لإنجاح هذا المشروع». عمل أبو بكر مديرا لمكتب البرجس عندما كان وكيلاً للصحة، وكان محل ثقته وكاتم اسراره، وتولى منذ الأيام الأولى للدوام في المكتب الجديد، وبتعليمات من أبي خالد، وبمشاركة وثيقة من دشتي، وضع خطط بناء الجهاز الصحفي والإداري للوكالة. وعبر دشتي مراراً عن اعتزازه وفخره بالعمل مع أبي خالد، رغم اختلافات كثيرة في وجهات النظر بينهما أحياناً. وكان أكثر ما أعجب أحمد دشتي، الذي أصبح نائباً للبرجس فيما بعد، موقف الأخير الرافض لأن تكون الوكالة تابعة لوزارة الإعلام. وصدر بعد ذلك المرسوم الأميري بتعيين كل من سعود العصيمي وعبد الله السابج وأحمد دشتي ود. فاروق العمر وفيصل الماجد، أعضاء في أول مجلس إدارة لوكالة الأنباء الكويتية.