أصبح برنامج إيران النووي على رأس أولويات الأجندة الإسرائيلية الأمنية منذ عام 2000، وحين عدتُ إلى الحكومة في صيف عام 2007، انضممتُ إلى منتدى الوزراء المعنيين بهذا الملف، وخلال أحد الاجتماعات، تمحور النقاش حول احتمال ضرب مصانع تخصيب اليورانيوم في إيران لكبح خططها الرامية إلى تطوير قنبلة نووية.

بعد ذلك الاجتماع، تكلّمتُ مع مدير الموساد حينها، مئير داغان، الذي كان قلقاً من التقدم الذي تحرزه طهران في برنامجها النووي، فسألتُه إذا كان مقتنعاً بأن إيران ستعجز عن إخفاء توسّعها النووي، فسألني عن رأيي في الموضوع.

Ad

فقلتُ له: "إسرائيل ارتكبت ثلاثة أخطاء فادحة في تعاملها مع خطط أعدائنا للتسلح نووياً:

أولاً، لم يكن الموساد يعرف شيئاً عن برنامج ليبيا النووي.

ثانياً، ارتكبت الاستخبارات العسكرية خطأً كبيراً حين ادّعت أن صدام حسين يملك ما يكفي من الأسلحة غير التقليدية لارتكاب إبادة جماعية، مع أن العراق لم يكن يملك أسلحة مماثلة على أرض الواقع.

ثالثاً، لم يكتشف الموساد وجهاز الاستخبارات العكسرية مفاعل سورية النووي قبل نهاية عام 2006، أي بعد مرور نحو خمس سنوات على بدء العمل عليه. باختصار، يمكن اعتبار معلومات إسرائيل والغرب حول مفاعل إيران النووي جزئية في أفضل الأحوال".

في تلك المحادثة، أخبرتُ داغان بضرورة أن تتعلم إسرائيل أن بعض المهام أكبر منها، هي لا تستطيع ردع الدول دوماً لأن الخسائر البشرية التي ترافق هذا النوع من العمليات تكون هائلة، ولهذا السبب، يجب أن نرفض بالكامل فكرة إطلاق هجوم مباشر ضد إيران، ونُركّز على الطرق التي تسمح بإضعاف برنامجها النووي بطريقة غير مباشرة ومنع النظام الإيراني من استعمال الأسلحة النووية التي يطورّها مستقبلاً.

هذا التوجه يدعم السياسة التي أطلقها أرئيل شارون ثم تبنّاها إيهود أولمرت، إذ ترتكز هذه السياسة على إنشاء تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة للتعامل مع ملف إيران النووي، فيسمح هذا التحالف لإسرائيل بتحسين طريقة تحقيق مصالحها.

حين كنتُ أسأل داغان من وقتٍ لآخر عن المدة التي يحتاج إليها الإيرانيون لتطوير قنبلة نووية برأيه، كان يقول دوماً: "التدخل الإلهي سيضمن ألا يحصل الإيرانيون على قنبلة خلال السنتين المقبلتَين على الأقل".

تحظى عقيدة "التدخل الإلهي" بدعم كبار المسؤولين في أوساط الدفاع والاستخبارات الإسرائيلية، وحتى حلفاء إسرائيل، لقد أثبتت هذه الفكرة فاعليتها وأدت إلى تأخير برنامج إيران النووي مراراً، لكن بنيامين نتنياهو عدّل السياسة الإسرائيلية في ملف إيران النووي بعد عودته إلى السلطة في عام 2009، وعلى عكس أسلافه الذين فضّلوا مقاربة براغماتية وعقلانية وحرصوا على تقوية تحالفهم مع الولايات المتحدة، اعتبر نتنياهو طموحات إيران النووية تهديداً وجودياً، فتحدى المنطق ودمّر التحالف الاستراتيجي الأساسي بين إسرائيل والولايات المتحدة.

ثم تخلى نتنياهو عن خطاب التهديد بعد انتخابه كرئيس وزراء للمرة الثالثة في عام 2013 وعيّن موشيه يعلون وزيراً للدفاع، فلم يكن هذا الأخير يحبّذ شن ضربة إسرائيلية ضد إيران، وقد اتضح للجميع أن إسرائيل لن تقصف منشآت إيران النووية وأن الموارد الضخمة التي استُعمِلت استعداداً للضربة المحتملة ذهبت أدراج الرياح.

بين عامي 2013 و2015، تفاوض المجتمع الدولي مع إيران، بقيادة الولايات المتحدة، لعقد اتفاق يفرض على النظام الإيراني تقليص برنامجه النووي مقابل رفع العقوبات المفروضة عليه خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن أثبتت الوقائع الميدانية أن الإيرانيين لم يوقفوا مساعيهم النووية رغم تضررهم الشديد من العقوبات، لذا قررت القوى المعنية اللجوء إلى حل بديل.

لم تكن العقوبات كافية لإجبار إيران على وقف برنامجها النووي، وفي المقابل، طالب الاتفاق النووي إيران بوقف مساعي تصنيع قنبلة لعشر سنوات على الأقل، ووعد طهران بعدم التعرّض لأي عقوبات إذا التزمت بشروط الاتفاق.

لكن بدل أن تشارك إسرائيل في الجهود الدولية الرامية إلى عقد اتفاق وتحاول توجيهه بطريقة تضمن تحقيق مصالحها، استبعد نتنياهو هذه الفكرة منذ البداية، فكان سلوكه غير عملي لأن جميع الدول، بما في ذلك إسرائيل، كانت ستستفيد من توقيع ذلك الاتفاق، ومع ذلك أعلن نتنياهو في فترة التفاوض أن عدم عقد أي اتفاق يبقى أفضل من إبرام اتفاق سيئ.

في بداية عام 2015، اتضحت النقاط الأساسية في الاتفاق المرتقب وأصبح توقيعه وشيكاً، وسمحت الأشهر التي سبقت توقيعه الرسمي في شهر يوليو من تلك السنة بإحداث بعض التعديلات.

اتّضح في تلك المرحلة أن نتنياهو يعجز عن منع عقد الاتفاق، لكنه قرر أن يسافر إلى واشنطن، كجزءٍ من حملته في انتخابات الكنيست العشرين، كي يعارض الاتفاق علناً خلال خطاب في الكونغرس، واعتبر الرئيس باراك أوباما هذه الخطوة خرقاً خطيراً للثقة بين الطرفَين، وتَوَّجت تلك الرحلة إلى واشنطن مجموعة من الخطوات الجنونية المتلاحقة في الملف النووي الإيراني.

كانت الحجج التي طرحها نتنياهو لمعارضة الاتفاق غير مبررة، وقد تكبدت إسرائيل ثمناً باهظاً، سياسياً واقتصادياً، بسبب التدابير التي اتخذها.

شدّد نتنياهو، خلال خطابه أمام الكونغرس، على أن الاتفاق سيحدّ من برنامج إيران النووي لفترة تقتصر على عشر سنوات لكنه سيمنحها الإذن لتصنيع قنبلة نووية بعد انتهاء تلك المدة.

أساء خطاب نتنياهو أمام الكونغرس إلى علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة في المقام الأول، ولو أراد نتنياهو التصرّف بطريقة حكيمة تخدم مصالح بلده، لكان يُفترض أن يعتبر الاتفاق فرصة ذهبية كي تُحسّن إسرائيل علاقاتها مع الإدارة الأميركية، وبدل معارضة الاتفاق، كان يُفترض أن يدعمه ويطالب الرئيس أوباما بزيادة المساعدات العسكرية إلى إسرائيل بمليارات الدولارات مقابل دعمه، وتكثيف تعاونه في المعركة ضد الإرهاب عموماً وإرهاب إيران خصوصاً.

بعد تغيير الإدارة الأميركية في يناير 2017، أطلق نتنياهو حملة من الضغوط للتأثير على دونالد ترامب وإقناعه بالانسحاب من الاتفاق النووي، وفي مايو 2018، أعطت تلك الجهود ثمارها، فأعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات التي رُفِعت سابقاً بموجبه، لكن "نجاح" نتنياهو ترافق مع عواقب كارثية، فعاد الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2015، وأدى الانسحاب الأميركي إلى استئناف البرنامج النووي الإيراني، ونتيجةً لذلك، يبحث كبار المسؤولين في جيش الدفاع الإسرائيلي عن الموارد اللازمة مجدداً لشن ضربة محتملة ضد إيران.

في مايو 2021، أشارت تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية إلى امتلاك إيران كمية كافية من اليورانيوم لتصنيع ثلاث قنابل حين ترتفع نسبة التخصيب من 60% إلى 90%، وفي أغسطس الماضي، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، أن عشرة أسابيع فقط تفصل إيران الآن عن تحقيق اختراق نووي واكتساب المواد التي تسمح لها بإنتاج سلاح نووي. من حق إسرائيل اليوم أن تشعر بقلق كبير إذاً، لكن كانت الاستخبارات العسكرية قد أعلنت في 2016 أن الملف الإيراني النووي سيبقى "خامداً" لفترة طويلة.

كل من يوهم نفسه بأن المجاعة ستدفع النظام الإسلامي إلى التخلي عن خياره النووي لم يتعلم شيئاً من العقوبات القاسية التي فُرِضت على إيران بين عامي 2010 و2015، وفي مايو 2020، كتب الدكتور راز زمت، وهو واحد من أبرز الخبراء بالشؤون الإيرانية، أن إيران تتمسك بأهدافها الاستراتيجية الأساسية، رغم حرمانها الاقتصادي الهائل، لا سيما تطوير برنامجها النووي، وتصنيع صواريخ طويلة المدى، وتوسيع نفوذها الإقليمي.

برأي المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، تُعتبر عتبة اكتساب القدرات النووية العسكرية والصواريخ الطويلة المدى "بوليصة تأمين" أساسية لضمان صمود النظام، ومع أن خامنئي يدرك طبيعة الضائقة الاقتصادية التي يعيشها بلده، لكنه يُصِرّ على اعتبار "اقتصاد المقاومة" الحل المناسب للأزمة، ومن المؤسف أن يمتنع أعضاء المؤسسة الأمنية عن رفع الصوت والتحذير من مخاطر ما حصل رغم اقتناعهم بتضرر إسرائيل بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.

يدرك الجميع اليوم أن حِيَل نتنياهو لإقناع الولايات المتحدة بالانسحاب من الاتفاق هي التي تفسّر اقتراب إيران الآن من التحول إلى دولة توشك على تجاوز العتبة النووية، إنه أكبر إخفاق أمني في سجل نتنياهو، لكن هذا الإخفاق لا يُنسَب إلى نتنياهو وحده، فقد عمدت الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تسلمت الحُكم في يونيو 2021، بقيادة نفتالي بينيت ويائير ليبيد، إلى لوم نتنياهو على إخفاقاته الاستراتيجية في تعامله مع إيران، لكن كان بينيت قد دعم رئيس الوزراء السابق بكل حماس حين شجّع ترامب على الانسحاب من "خطة العمل الشاملة المشتركة" في عام 2018، والتزم عدد كبير من منتقدي نتنياهو الحاليين الصمت في تلك المرحلة.

يجب أن تسعى حكومة بينيت-ليبيد إذاً إلى تجديد الاتفاق بما يتجاوز نطاقه الأصلي، إنها السياسة الوحيدة القادرة على كبح التدهور الخطير والمستمر في المنطقة على مستوى الملف النووي، علماً أن الأزمة بدأت مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق. يجب أن تعود إسرائيل إلى سياسة شارون وأولمرت لأنها معتادة على التعاون مع المجتمع الدولي بدل التصدّي له، لا سيما في الشأن الإيراني، حيث تسمح هذه الخطوة بالعودة إلى الوضع القائم قبل الانسحاب من الاتفاق في مايو 2018، وتدفع إيران إلى الالتزام مجدداً بتلبية شروط "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وفي غضون ذلك، يجب أن تتابع إسرائيل طبعاً تطبيق سياسة "التدخل الإلهي".

هذه المقالة مقتطعة من كتاب حاييم رامون المنتظر باللغة الإنكليزية،Gambling on Israel’s Existence – A Cabinet Minister’s Inside Account of Israel’s History. (الرهان على وجود إسرائيل– وثيقة داخلية عن تاريخ إسرائيل من وزير في الحكومة).

وُلِد حاييم رامون عام 1950 في يافا من والدَين بولنديَين كانا قد نَجَوا من محرقة اليهود، وبعد توليه منصب أمين عام جناح الشباب في حزب العمل الإسرائيلي، أصبح عضواً في الكنيست في عام 1983 حتى عام 2009، وتسلم خلال هذه الفترة وزارات الصحة والداخلية والعدل.

* حاييم رامون