تململ بعض الشيء رغم أنهم قد حجزوا له على درجة رجال الأعمال في تلك الرحلة من لندن إلى البحرين، هو لا يحب الطيران منذ أن ترك مدينته بغداد بعد خروجه من السجن في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، كان شاباً يتطلع إلى استنشاق الحرية بل عيشها مهما كانت قساوة الاستمتاع بها بعيداً عن وطنه. جاءته المضيفة الجوية لتسأله بلطف عما يحب أن يشرب ويأكل، وكيف تستطيع أن تجعل من رحلته أكثر متعة؟ فكر قليلا وأجاب "أن تجعليها أقصر"، ضحكت هي وتصورت أنه لم يفهم السؤال، ولكنه استرسل في التوضيح والشرح حتى أطلعته على قائمة الأفلام والأغاني وغيرها من وسائل الترفيه المتاحة على متن تلك الرحلة، خجل أن يقول لها إنه لا يحب أفلام الطائرات فيبدو أن الاختيارات تتم على تلك المواد والأفلام الأكثر رواجا بين العامة، الأمر الذي كرهه منذ أن كان صغيراً يتعلم بعض الفكر الشيوعي الذي كان الأكثر إغراء بين الأفكار المنتشرة، فهو لا يستطيع أن يكون قومياً ولا ناصرياً ولا بعثياً طبعاً بعد أن عارض فكرهم منذ مراهقته ولا مأوياً ولا رأسمالياً رغم أنه يعشق عيشة الرفاهية!
شكرها بأدب وعمل على إنهاء المحادثة البليدة بعض الشيء، قائمة الأغاني معظمها لمطربين حديثين وهو لا يعترف بأنهم يملكون أصواتاً من عشق في سنوات صباه مثل ناظم الغزالي وفيروز وأسمهان، بين كل الأسماء التي لا يعرفها كانت هناك قائمة طويلة لسلسلة أغاني السيدة أم كلثوم، أشاح بوجهه "أوف إنت وراي وراي منذ النكسة التي بررتِ لها بأغانيك"! تذكر حواره مع تلك الصحافية الشابة المبتدئة التي صدمته بعشقها لأم كلثوم مما أثار غضبه وراح يلقي بمحاضرة طويلة على الصحافية التي كانت ترى فيه أستاذاً في الصحافة والإعلام، وعملت جهدها في يوم لقائه أن تبهره بما قامت به، وكيف تفهم هي الصحافة ودورها في المجتمع... إلخ... إلخ، لكنه ركز في حديثه على نصيحتها بأن تبتعد عن الأفكار المثالية وعن الموضوعية في الإعلام، فلا وجود لها إلا في كتب كلية الإعلام للسنة الأولى!! وعندما تحدثوا عن الغناء والفن احمر وجهه وهو يمنحها ما كان يتصور أنه خلاصة تجربته الطويلة في الحياة لا في المهنة فقط، وكان درسه الأول مكثفاً ومركزاً على كم عدائه لسيدة الغناء التي نصحها بالابتعاد عنها لأنها لم تفعل سوى أن ساهمت فيما قال عنه إنه "تخدير" العرب عندما كانت السماء تمطرهم هزائم و"صوت العرب" لا تتوقف عن بث الأغاني الحماسية لتلهم مشاعرهم الوطنية.سكتت بعض الشيء هي، لكنها لا تستطيع أن تكتم خيبتها مما قال، فردت الحجة بالحجة، ثم قالت له: كيف لا تستطيع أن تستمع بمزيج من أجمل ما قيل في العشق والحب عند العرب مع أفضل الملحنين والموسيقيين الذين كانوا يصاحبون ذاك الصوت الذي لا يتكرر.. كيف؟ وجاءت بكثير من القصائد التي غنتها أم كلثوم من شعر أحمد شوقي (ولد الهدى وسلو قلبي) وأحمد رامي في رباعيات الخيام إلى إبراهيم ناجي (الأطلال) ومن القدماء أبي فراس الحمداني (أراك عصي الدمع) وغيرهم كثر، وكانت الصبية تردد بعض الأبيات التي حفظتها عن ظهر قلب، وتصورت أن ما قاله ذاك الصحافي العريق صادم لكل ما كبرت عليه، ولكل ما أحبته من بين كثير من الأمور... انتهى لقاؤهما سريعا وبقي الوصال فيما بينهما حتى ضعف مع الزمن. أيقظته المضيفة الجوية من أفكاره وسرحانه لتقدم له الطعام والشراب، وهو يعاين الساعة في كل لحظة، تلك التي بدت قد توقفت أو تحولت إلى التحرك ببطء، حتى أنه أحس أن الزمن توقف وكاد يصاب برهاب الطيران لولا أنه قرر أن يعيش اللحظات مع تلك الصبية عبر بضع أغاني الست، فكان أن بدأ بـ"ألف ليلة وليلة" ومر عبر "مادام تحب بتنكر ليه"، ثم لم يتوقف حتى جاءه صوت يعلن الوصول إلى مطار البحرين. فجأة انتابته الرغبة أن تطول الرحلة بعض الشيء أو أن تنتهي الإجراءات في المطار سريعاً ليبحث عن أول هاتف ويطلبها فيقدم اعتذاره ويشكرها لأنها خلصته من عقدة قديمة وهواجس وتفسيرات لم يكن لها أي مبرر، ومنذ تلك الرحلة لم تفارقه أم كلثوم ولم تعد رحلات الطيران الطويلة تزعجه... هي الست تغتسل الأرواح بصوتها الأكثر حضوراً من كل الهزائم.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.
مقالات
هي الست... الله الله عليها
15-11-2021