من قواعد لعبة "جاكارو" اللوحية أن الورقة التي تحمل رقم "أربعة" تجبر حاملها على التراجع الإلزامي في مسار يستند فيه الربح الى سرعة التقدم والوصول الى الهدف. التراجع الإلزامي الذي تفرضه الورقة يؤدي بلا شك الى اختلاط "شعبان برمضان"، وقد يربك خطة اللاعب، ويهدّئ من حميّة حماسته، وقد يبعده عن جنان الفوز، وبالمقابل قد يمهّد التراجع إذا ما أحسن توقيت استخدامه لانتصارات مستقبلية غالية تؤكد دور وأهمية النعمة التي منحنا الله إياها، وأعني بها هبة العقل وحسن التفكير والتدبير.
قد يظهر التراجع على أنه انهزام أو خسارة، ولكنه في ميدان السياسة والحروب، كما في معظم الميادين الاجتماعية والاقتصادية، تكتيك ناجح يسمح للذي يتقن التعامل معه بالتقاط أنفاسه وتقييم موقفه، وتجهيز عديده وعتاده تمهيداً لتحسين موقعه. ما أحوجنا لمثل هذا النفس الهادئ الذي يدرك أبعاد الحادثة المنسوبة لصنديد العرب "عنترة بن شداد" الذي سئل استفزازاً عندما هرب من ثور "أين شجاعتك، أتخاف من ثور وأنت عنترة؟" ليجيب بحكمة وروية: "وما يُدري الثور أني عنترة؟".المكابرة والتشبث بالرأي والتصلب في المواقف هي آفات لصيقة بكثير من مكونات مجتمعاتنا، ورغم ما يسوق لها أو يبرر للتمسك بها على أنها قيم ترتبط بعزّة النفس والكرامة الإنسانية والثبات في المواقف الصعبة، فإن النتائج المتأتية عنها تكون في كثير من الأحيان أكثر سلبية وأبعد تأثيراً في الخسارة الفردية والجماعية من شجاعة التراجع المؤقت الذي تقتضيه الظروف.***انتهت الحرب الأهلية الأميركية باستسلام جميع الجيوش الكونفدرالية وحل الحكومات المحلية وتواضع الطموحات والنزعات الشعبوية أمام المصلحة العليا التي تمثّلت ببناء دولة فدرالية واحدة وقوية تمكنت من حكم العالم فيما بعد. وليس ببعيد عنّا تحول مآسي الشعوب والدول الأوروبية التي عانت حربين عالميتين الى مصالحات تاريخية مهدت لاتحاد قوي يضمّ أكبر اقتصادات الأرض الى أضعفها تحت لواء التفاهم وتبادل المصالح وحسن توجيه الطاقات البشرية والطبيعية والمالية والاستفادة منها لرخاء الدول والشعوب.في القارتين البعيدة والقريبة لم تتمترس الدول الأقوى خلف واقع تفوقها الاقتصادي والعسكري، ولم تتعنت الشعوب التي تعتبر نفسها أكثر رقياً بالتمسك بما لديها من مفاهيم فكرية وأساليب معيشة تميزها عن غيرها من الشعوب الأكثر تواضعاً وربما جهلاً.نجحت السياسات الرشيدة بالتراجع عن مزايا ومكاسب ظرفية منحها التاريخ أو الجغرافيا لبعض البلدان أو الشعوب، لتحقق على المستوى الاستراتيجي رخاء مستداماً وعمرانا متطوراً وحضارة قد تعيش لقرون قادمة.سادت لغة المصالحة على نداءات الثأر، وانتصرت فضيلة الاتحاد على رذيلة التقوقع، كما تبددت شعارات الدفاع عن الأرض والعرض أمام صخب ورشة البناء للبشر والحجر.***ما أحوجنا في مجتمعاتنا ودولنا أن نحسن الموازنة بين القيم السامية التي جبلنا عليها وما يتطلبه منّا الواقع والمستقبل من تواضع في التفكير وعملانية في التدبير، فمهما أخذتنا العزّة بالإثم ومهما تحصنّا خلف بروجنا المشيدة، ما نعانيه أفراداً وجماعات، وما نسهم فيه أو يخطط لنا من مستقبل ملتبس، أدعى بنا أن نقارب مصالحنا الخاصة والعامة بروية، وأن نتعامل مع واقعنا بروح التواضع والمشاركة لا التعنت والمخاصمة.العلاقات فيما بيننا تحتاج إلى وقفة صدق مع الذات يصبح بعدها الكبير أكثر تفهما لمتطلبات وهواجس الأصغر، ويمسي معها الصغير أكثر جاهزية لاحترام الأكبر، ويضحي الجميع أكثر انفتاحاً واستعداداً للتخلي عن شعارات بالية لفظها منطق التقدم وواقع الحضارة الإنسانية منذ زمن.فرق كبير بين الشجاعة والتهور، بين الكرامة والعناد، بين الثبات والجمود، بين التجاهل والجهل، بين البقاء في قمة الجبل والموت تجمداً من هول صقيعه!عندما ينحني القصب أمام اندفاع العاصفة تنجح مقاومته أكثر من شجرة ثابتة تتحطم في مواجهة الرياح عناداً وغطرسة وربما ادعاء أو عدم تقدير سليم للقوة، وعندما يحتاج الموقف إلى حكمة لا تفيده الكلمة، وعندما تتطلب القوة عقلاً وحسن دراية لا تنفعها العضلات مهما تزايد حجمها أو اشتد بنيانها، وعندما تتباهى العصا بتفردها من السهل أن يكسر مهما غلظ عوده أو اشتد صلبه!* كاتب ومستشار قانوني.
مقالات
أربعة «جاكارو»
17-11-2021