في عام 2001، قرر الغرب تنفيذ تدخّل عسكري جماعي في أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة غداة اعتداءات 11 سبتمبر، مما أدى إلى استعمال بند الدفاع المتبادل الذي ينص عليه حلف الناتو للمرة الأولى على الإطلاق، وبعد أقل من عقدَين، انسحب آخر جندي غربي في الصيف الماضي، لكن فشلت الولايات المتحدة في تنسيق جهودها مع حلفائها واسترجعت حركة "طالبان" البلد كله تقريباً، ومع اقتراب الشتاء الآن، أصبح ملايين الأفغان على شفير المجاعة.

دافع الخبراء الاستراتيجيون الأميركيون عن قرار الانسحاب على اعتبار أن البلد يحتاج إلى زيادة الموارد والطاقة المخصصة لاحتواء النفوذ الصيني في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، فكانت اتفاقية "أوكوس" التي صدرت في سبتمبر كي تساعد الولايات المتحدة وبريطانيا أستراليا على بناء غواصات نووية لتصبح تجسيداً حياً لقوة التحالف الغربي، لكن أمعنت هذه الاتفاقية في ترسيخ الانقسامات الغربية كونها تسيء إلى فرنسا بعد إلغاء صفقة الغواصات التي تجمعها مع أستراليا، ومن الواضح إذاً أن مفهوم الغرب بات يتراوح بين التراجع السريع وقوة التحمّل الشائبة.

Ad

بدأت معالم ساحة الصراع المقبلة تتّضح: أوروبا الوسطى والشرقية، وتنتشر المخاوف تحديداً في البوسنة والهرسك، حيث بدأت صفقة تقاسم السلطة التي رسّخها "اتفاق دايتون" تنهار.

نفّذ جيش جمهورية صربسكا تدريباً عسكرياً جديداً في ضواحي سراييفو، عاصمة البوسنة، ويُعتبر هذا الحدث مقلقاً جداً في دولة شهدت أول تطهير عرقي جماعي في أوروبا منذ عام 1945 قبل جيل واحد فقط.

زادت جرأة ميلوراد دوديك، زعيم صرب البوسنة، نتيجة اقتناعه بأن الغرب ليس مستعداً لدعم "اتفاق دايتون"، وأدت أزمة أفغانستان الأخيرة إلى نشر الشكوك حول قدرة الناتو على التحرك، وفي غضون ذلك، تلاشت الآمال بانتساب دول البلقان الغربية إلى الاتحاد الأوروبي، وتواجه دول الاتحاد أصلاً تُهَماً بإضعاف منصب الممثل الأعلى، ودعم القادة القوميون اليمينيون في الاتحاد الأوروبي موقف دوديك المعادي للإسلام ومنعوا فرض عقوبات أوروبية على حكومته، والأخطر من ذلك هو أن قرار الأمم المتحدة الأخير لإعادة التأكيد على مهمة قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي دفع القوى الغربية للرضوخ لمطالب روسيا والصين حول الامتناع عن الرجوع إلى الممثل الأعلى.

بدأ نمط مماثل ينشأ في أماكن أخرى نتيجة التطورات المقلقة التي تشهدها أوروبا الوسطى والشرقية، فأرسل رئيس صربيا القوي، ألكسندر فوتشيتش، دبابات إلى حدود البلد مع كوسوفو حديثاً، وأدى تردد الاتحاد الأوروبي في تسهيل انتساب دول مثل ألبانيا ومقدونيا الشمالية إلى استفادة القوميين في البلدَين معاً، وفي الوقت نفسه، لا تزال جورجيا تميل إلى الحُكم الاستبدادي وتزداد بُعداً عن الاتحاد الأوروبي، كذلك، بدأت روسيا تجمع قواتها العسكرية مجدداً على طول حدودها مع أوكرانيا، وحتى كتابة هذه السطور، ينتشر نحو ألف مهاجر على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، وقد نقلهم نظام ألكسندر لوكاشينكو الفاسد في مينسك إلى هناك في محاولةٍ منه لتأجيج الانقسامات الأوروبية.

مجدداً، اقتصر ردّ الاتحاد الأوروبي على إطلاق مواقف شفهية للتعبير عن القلق مما يحصل، لكنه لم يتخذ أي خطوة عملية لمعالجة المشكلة، وفي الماضي، كانت الولايات المتحدة تستلم دفة القيادة في ظروف مماثلة، لكن يثبت قرار الأمم المتحدة الآن أن واشنطن تسعى إلى تجنب الاشتباكات التي تلهيها عن أهم ملف يشغلها اليوم: الصين.

يعكس هذا الوضع أعلى درجات الانقسام الغربي، وأكثر ما يثير القلق هو ميل الحكام المستبدين والمعادين للغرب إلى تدبّر أمورهم في ظل الضعف الغربي المستجد، ولن يقف الغرب على الهامش إذا اندلعت الحرب في أماكن مثل البوسنة، لكنه منقسم ومُشتّت لدرجة أن يتجنب قادة مثل دوديك، وفلاديمير بوتين، وفوتشيتش، ولوكاشنيكو، تداعيات تحركاتهم المعادية للنظام الدولي طالما لا تصل إلى مستوى شن الحرب، ويبدو أن عصر الضعف الغربي سيكون مرادفاً لعصر الحرب الهجينة إذاً.

* جيريمي كليف

New Statesman