منذ أن وصل جايير بولسونارو إلى السلطة في البرازيل، حذّر المراقبون من التهديدات الخطيرة التي يطرحها قائد الجيش السابق على خامس أكبر ديموقراطية في العالم، وسرعان ما اتضح أن تلك المخاوف محقة، فانضم الرئيس البرازيلي منذ بداية عهده إلى المتظاهرين الذين يؤيدون حصول تدخّل عسكري في سياسة البرازيل وإغلاق المجلس الوطني والمحكمة العليا، مما أدى إلى عسكرة حكومته على نطاق واسع وإضعاف ثقة الرأي العام بنظام التصويت المحلي، وفي الشهر الماضي، وَعَد بولسونارو مناصريه بألا يوافق بعد الآن على قرارات المحكمة العليا إذا صدرت عن قاضٍ معيّن اعتاد على شيطنته.

ثم جاءت التطورات في الولايات المتحدة لتؤجج مواقف بولسونارو، فبعدما أقدم مناصرو الرئيس السابق دونالد ترامب على اقتحام مبنى الكابيتول في 6 يناير، أعلن ابن بولسونارو، إدواردو، أن المقتحمين كانوا سينجحون في مهمّتهم لو حسّنوا خططهم، مما يعني «أن يقتلوا جميع عناصر الشرطة في الداخل أو أعضاء الكونغرس المكروهين»، وأصرّ بولسونارو شخصياً على حصول تزوير في الانتخابات الأميركية في عام 2020، وكرر هذه الفكرة خلال زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، حديثاً.

Ad

بما أن بولسونارو يستوحي مواقفه من ترامب على ما يبدو، يصعب أن يتقبل الرئيس البرازيلي أي هزيمة في الانتخابات حين يترشح لإعادة انتخابه في عام 2022، مما يزيد احتمال تكرار أحداث مشابهة لأعمال الشغب الأميركية في البرازيل، لكن حتى لو كان البلد محظوظاً بما يكفي لتجنب هذه النتيجة، ستبقى الديمقراطية فيه مُهددة، ولن يكون انهيار البرازيل على طريقة فنزويلا مستبعداً، مما يعني أن تتآكل الديمقراطية ببطء وترضخ في نهاية المطاف لضغوط زعيم استبدادي، وحتى لو وصل مرشّح ديموقراطي إلى السلطة بعد بولسونارو، لا يمكن كبح انهيار ثاني أكبر ديموقراطية في نصف الأرض الغربي إلا بعد خوض معركة طويلة وشاقة.

مشاكل داخلية

ينجم تراجع الديموقراطية في البرازيل عن نزعات محلية تسبق وصول بولسونارو إلى السلطة، أبرزها عدم اكتمال سيطرة السلطة المدنية على القادة العسكريين، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود بقليل، بعد نهاية الحُكم الدكتاتوري العسكري خلال الثمانينيات، استرجعت القوات المسلحة المحلية جزءاً هائلاً من نفوذها السياسي. نجحت الحكومات في أولى سنوات الألفية الجديدة في استعادة جزء كبير من السيطرة المدنية عبر خطوات عدة، منها إنشاء وزارة دفاع وتعيين مسؤولين مدنيين لقيادتها، لكن منذ عام 2018، لا يستلم إلا الجنرالات وزارة الدفاع في البرازيل، وفي الوقت الراهن، تشمل إدارة بولسونارو ما يفوق الستة آلاف عنصر عسكري (أكثر من الحكومات السابقة بكثير)، ويتولى مسؤولون عسكريون حاليون وسابقون عدداً كبيراً من المناصب الحكومية الأساسية.

كذلك، عبّر حكّام المناطق عن قلقهم من خسارة السلطة التي يمنحهم إياها الدستور أمام وحدات الشرطة العسكرية، حيث تحتدم المشاعر الاستبدادية والموالية للرئيس بولسونارو. تعهد عدد كبير من الحُكام حديثاً بالتعاون لتقليص مخاطر حركات التمرد داخل وكالات إنفاذ القانون، لكن يكشف النموذج الفنزويلي أن المدنيين قد يجدون صعوبة في فرض سيطرتهم على هذا النوع من الوحدات.

في الوقت نفسه، فشلت المؤسسات السياسية والقضائية في البرازيل في كبح المد الاستبدادي، حيث وجد المجلس الوطني والمحكمة العليا تحديداً صعوبة في مراقبة تصرفات بولسونارو الخطيرة، بما في ذلك استعماله المنهجي لحملات التضليل لمهاجمة خصومه، وتأكيده المتكرر على أن الله وحده يستطيع انتزاع الرئاسة منه.

تشير استطلاعات الرأي إلى اقتناع معظم البرازيليين باستعداد بولسونارو لتنفيذ انقلاب، ومع ذلك يبدو عزله مستبعداً حتى الآن، فقد سبق أن غيّر بولسونارو المعايير السياسية المهمة، فأصبحت قدرة الرئيس على حُكم البلد من دون مساءلة، إذا نجح في تعيين النائب العام ورئيس المجلس الوطني، ظاهرة طبيعية مثلاً. وحتى لو خسر بولسونارو في انتخابات عام 2022، سيميل خلفه إلى تطبيق التكتيكات نفسها على الأرجح.

على صعيد آخر، أدى تدهور الظروف الاقتصادية تدريجاً (زاد الوضع سوءاً بسبب أزمة كورونا) إلى تسريع الانهيار الديموقراطي في البلد، وفشلت الحكومات الديموقراطية المتلاحقة في تأمين الخدمات العامة الأساسية لجزءٍ كبير من البرازيليين، بما في ذلك الأمن، وأنظمة الصرف الصحي المناسبة، والفرص الاقتصادية المفيدة، فكانت معدلات القتل قد زادت بوتيرة ثابتة في البرازيل، حتى خلال سنوات الازدهار التي شهدها البلد في أول عقد من الألفية، حين وصل النمو الاقتصادي إلى 7%، واليوم، يتعرض نحو 50 ألف برازيلي للقتل سنوياً، وتسيطر جماعات الجرائم المنظمة والميليشيات على مساحات واسعة من المدن الكبرى، منها ريو دي جانيرو، فهذا الواقع قد يفسّر السبب الذي يجعل الزعماء «الصارمين مع الجرائم»، أي أولئك الذين يعتبرون حقوق الإنسان عائقاً أمام إنفاذ القانون من أمثال بولسونارو، قادرين على منافسة الآخرين خلال السنوات المقبلة.

لهذا السبب، يُعتبر بولسونارو جزءاً من أعراض وأسباب اعتلال الديموقراطية في البرازيل، وعلى عكس الأرجنتين وتشيلي ودول أخرى من أميركا اللاتينية، لم تتصالح البرازيل صراحةً مع ماضيها الاستبدادي يوماً، رفضت الحكومات الديموقراطية المتعاقبة إدانة ولو شخص واحد على انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة طوال أكثر من عشرين سنة من الحُكم العسكري لأنها فضّلت طيّ الصفحة وتناسي تاريخ الدكتاتورية العسكرية الوحشي. لم يتغير الوضع إلا في يونيو 2021، حين حَكَم قاضٍ في ساو باولو على ضابط شرطة متقاعد بالسجن لمدة سنتين بتهمة الخطف في عام 1971.

مشاكل خارجية

لا ينجم التراجع الديموقراطي في البرازيل عن الانهيار الداخلي فحسب، بل تؤثر عوامل دولية أخرى على الوضع أيضاً، فقد أدت المخاوف المرتبطة بإزالة الغابات في الأمازون وبالتغير المناخي مثلاً إلى تأجيج الضغوط الدولية على البرازيل لدفعها إلى تكثيف جهودها لمحاربة مظاهر تدمير البيئة، فقد سبق أن أطلق هذا النوع من الانتقادات ردود أفعال قوية وسط مناصري بولسونارو، ما سمح له بتأجيج خطاب القومية بدل معالجة مشاكل البرازيل الداخلية، لكنّ توسّع عزلة البلد دولياً نتيجة سجله السيئ في المجال البيئي سهّل على بولسونارو أن يطرح نفسه كآخر مسوؤل قادر على حماية سيادة البرازيل.

في الوقت نفسه، أثّرت الجماعات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة على السياسة البرازيلية أيضاً، فبعد هزيمة ترامب في عام 2020، بدأ المتطرفون يعتبرون البرازيل جزءاً من ساحة معركة عالمية في خضم محاولتهم لتقوية ما سمّوه معسكر «اليمين البديل»، فحافظت عائلة بولسونارو على روابط وثيقة مع مستشاري ترامب السابقين، مثل ستيف بانون، واعتقلت السلطات جايسون ميلر حديثاً لاستجوابه في المطار في برازيليا بعد حضوره مؤتمراً سياسياً للمحافظين هناك، كذلك، سعت حكومة بولسونارو إلى تقوية علاقاتها مع الحركات اليمينية المتطرفة في عدد من الدول، مثل المجر وإيطاليا وبولندا، فأعادت بذلك التأكيد على آراء مشتركة حول مسائل مثل الهجرة ومخاطر «العولمة».

في غضون ذلك، يبقى استعداد الولايات المتحدة للضغط على بولسونارو بسبب خطاباته وسياساته المعادية للديموقراطية محدوداً، حيث تتوق إدارة الرئيس جو بايدن لإشراك البرازيل في المعركة ضد التغير المناخي وفي جهودها الرامية إلى إضعاف النفوذ الصيني في أميركا الجنوبية، لكن يتطلب هذان الهدفان التعاون، لا العداء، فقد كانت رحلة سوليفان الأخيرة إلى برازيليا خير مثال على ذلك: رغم رفض بولسونارو مزاعم المستشار الأمن القومي حول حصول تزوير في نظام التصويت الإلكتروني في البرازيل، استنتج المراقبون أن هدف سوليفان الأساسي لا يتعلق بتحذير الرئيس بسبب ميوله الاستبدادية بل إنه أراد إقناعه بحظر شركة «هواوي» من شبكة الجيل الخامس في البرازيل، إذا وافق بولسونارو على هذا البند، كانت واشنطن ستعرض على البرازيل تحالفاً أمنياً أكثر قوة وتقترح انضمامها إلى حلف الناتو كـ»شريكة عالمية»، وهي مكانة لا تتمتع بها إلا كولومبيا من بين دول أميركا اللاتينية. أثارت رحلة سوليفان مخاوف أخرى حول استعداد الولايات المتحدة للإغفال عن محاولات بولسونارو الواضحة لإضعاف الديموقراطية البرازيلية إذا وافق على التعاون مع واشنطن للحد من نفوذ بكين في المنطقة.

بغض النظر عن مسار انتخابات البرازيل في أكتوبر 2022، تواجه الديموقراطية المحلية اختباراً صعباً، ويثبت التراجع الديموقراطي في دول أخرى، مثل المجر وتركيا وفنزويلا، أن الزعماء يزدادون جرأة واستبداداً بعد إعادة انتخابهم، وإذا فاز بولسونارو بولاية أخرى، فمن المستبعد إذاً أن يكون استثناءً على القاعدة، لكن إذا خسر في هذا الاستحقاق ورفض التنازل وحرّك مناصريه، فقد تعجز المؤسسات الديمقراطية الضعيفة في البرازيل عن الصمود في وجه الهجوم الاستبدادي.

لكبح أي أزمة ديموقراطية، يجب ألا تنخدع شخصيات المعارضة في البرازيل باستقرار الأمن الوهمي الذي يتعهد به بولسونارو في مناسبات متكررة لتصويب سلوكه السياسي، بل يُفترض أن تشكّل هذه الجماعات جبهة موحّدة وتتجنب التقاتل الداخلي المتكرر والانقسامات الفئوية التي سمحت للرئيس بالسيطرة على توجهات الرأي العام في آخر ثلاث سنوات، وعلى غرار ما حصل في جمهورية التشيك، حيث تكاتفت مجموعة واسعة من الجماعات حديثاً لهزم رئيس الوزراء الشعبوي أندريه بابيس، يجب أن تتجاوز الجماعات المعارِضة للرئيس بولسونارو خلافاتها السياسة مؤقتاً وتنشئ تحالفاً داعماً للديموقراطية.

وفي غضون ذلك، يجب أن توضح إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي معاً أن أي محاولات أخرى لإضعاف المؤسسات الديموقراطية في البرازيل ستترافق مع عواقب خطيرة على بولسونارو، وإذا لم يغيّر الرئيس مساره، يجب أن تشمل الخيارات الأميركية والأوروبية تقليص الروابط العسكرية، ووقف المصادقة على اتفاق التجارة بين الاتحاد الأوروبي و«ميركوسور» (تحالف اقتصادي في أميركا الجنوبية)، وتجميد معاملات انتساب البرازيل إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث ستكون هذه المقاربة الجماعية التي تعالج تداعيات حركة بولسونارو المعادية للديموقراطية داخلياً ودولياً أفضل طريقة لإنقاذ الديموقراطية البرازيلية بعد عام 2022.