حين يلتقي جو بايدن الرئيس شي جينبينغ
يدرك الجميع اليوم أن العلاقات الأميركية الصينية وصلت إلى مرحلة خطيرة وغير مستقرة، ويظن الرئيس الصيني شي جينبينغ أن العالم يمرّ بـ«حالة اضطراب غير مسبوقة منذ القرن الماضي»، وبرأيه، يحرز الشرق التقدم في حين يشهد الغرب تراجعاً واضحاً، فهو يقول إن الصين «تستفيد من الوقت والزخم المتصاعد» اليوم، وتحت شعار «التداول المزدوج»، كثّف شي جينبينغ التزامه بمحاولة ابتكار تكنولوجيا أصلية لتخفيف اتكال الصين على العالم، تزامناً مع زيادة اتكال العالم على الصين.في الولايات المتحدة، ينشط الرئيس جو بايدن في بيئة سياسية تشوبها الشكوك ومشاعر الاستياء والعدائية من الحزبَين الجمهوري والديموقراطي تجاه الصين، فهو يتعامل مع مجموعة مقلقة من القدرات الجديدة التي بدأت بكين تُطوّرها، فعلى سبيل المثال، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية «تقرير القوة العسكرية الصينية» حديثاً، وهو يتوقع أن تكتسب بكين نحو ألف رأس حربي نووي بحلول عام 2030، أي أكثر من ضعف تقديرات البنتاغون في السنة الماضية، ويشير هذا الإيقاع المتسارع وحجم الاستثمارات الصينية في أنظمة التسليم النووية إلى تحوّل مريب من الردع النووي إلى اكتساب قدرات نووية قتالية.تلقي مشاكل شائكة أخرى بثقلها على العلاقات الأميركية الصينية، وتشعر الولايات المتحدة بقلق متزايد من «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، وإقدام الصين على تصدير تكنولوجيا المراقبة، وتجدّد عمليات السرقة الإلكترونية للملكية الفكرية برعاية الدولة. تُضاف هذه المخاوف إلى الشكاوى القديمة حول ممارسات الصين التجارية غير العادلة، وطريقة تعاملها مع الأقليات، وعدم تحمّلها للتعبير السياسي، وإمعانها في مضايقة الدول المجاورة لها. وتشعر بكين أيضاً بالامتعاض بسبب مجموعة كبيرة من الخطوات، بما في ذلك إصرار واشنطن على اتهامها بارتكاب إبادة جماعية في «شينغيانغ»، وفرض عقوبات وقيود أميركية جديدة، واعتقال المديرة المالية في شركة «هواوي» منغ وانغتشو سابقاً، والعمليات العسكرية المكثفة في بحر الصين الجنوبي، وتصاعد مواقف الدعم لتايوان.
أعلن بايدن وشي جينبينغ التخطيط لتنظيم «قمة افتراضية» في 15 نوفمبر في هذه الظروف المشحونة، وأنتج هذا الخبر خليطاً من الأمل والخوف، فهذا الاجتماع أول لقاء مباشر بين الرئيسين، ولو أنه افتراضي، ويظن بعض المراقبين في البلدين وفي أنحاء العالم أنه قد يشكّل منعطفاً محورياً في الأحداث: إنها فرصة لتغيير مسار العلاقة بين الولايات المتحدة والصين وتجديد التعاون بينهما، لكن يخشى آخرون، لا سيما معسكر المشككين في الولايات المتحدة، أن ينجرّ بايدن إلى جولة أخرى من الحوارات الثنائية التي تنتج وعوداً فارغة وتمنح الصين الوقت الذي تحتاج إليه لزيادة قوتها.لكن يغفل هذان التحليلان عن حقيقة ما يحصل، إذ يُعتبر بايدن وأعضاء فريقه سياسيين مخضرمين وقد وصلوا إلى السلطة في ظل احتدام المنافسة بين القوى العظمى، وأصروا على رفض الاجتماعات الشكلية التي تحبذها بكين، ومن المستبعد أن ينجروا إلى حوارات غير مثمرة، وفي المقابل، يجب أن تبقى التوقعات المنتظرة محدودة لأن أياً من المشاكل التي تواجهها الولايات المتحدة والصين لن يُعالَج بحلول سريعة، ولأن الاتصالات عبر تطبيق «زوم» لا تُغني عن التواصل المباشر والمطوّل، لكن حتى لو لم يحصل أي إنجاز كبير، قد تُحقق الدبلوماسية هدفاً محورياً، فهذا الاجتماع سيعطي بايدن وشي جينبينغ فرصة قيّمة لتحديد الأسس التي تسهم في تجنب أزمة كبرى.إذا نجح الرئيسان في ترسيخ إيقاع منتظم للتواصل بينهما، مما يسمح بعقد لقاءات مباشرة حين تسنح الفرصة، فستصبح الولايات المتحدة والصين أكثر قدرة على التحكم بالتلقبات الحاصلة والمخاطر المطروحة في هذه العلاقة الثنائية، وإذا تمكّن الطرفان من فتح قنوات تواصل صادقة بين مسؤولين أدنى مستوى لتبادل المعلومات واستكشاف الحلول بدل التبجّح وتبادل الهجوم، فقد يُحسّن البلدان فرص السيطرة على المنافسة التي لا تزال محتدمة، وإذا اقتنع شي جينبينغ بموقف بايدن حول التزام الولايات المتحدة حتى الآن بسياسة «الصين الواحدة»، وإذا صدّق بايدن أن الصين تبقى ملتزمة بحل ملف تايوان سلمياً، فقد ينجح البلدان في إخماد الاضطرابات القائمة في هذه النقطة الساخنة من العالم. يستطيع الزعيمان بهذه الطريقة أن يمنعا تفاقم المنافسة الأميركية الصينية وتحوّلها إلى مواجهة أكثر خطورة.بعد عملي كدبلوماسي طوال 33 عاماً كنتُ خلالها مساعداً خاصاً للرئيس الأميركي أيضاً، تعلّمتُ أهمية العامل البشري في العلاقات الدولية، وانطلاقاً من خبرتي الخاصة، أظن أن القادة لديهم طابع بشري مفرط. أحياناً، قد تكون هذه الصفات البشرية جزءاً من عوامل الخطر لأن مشاعر الكبرياء والقرارات التي يتخذها القادة في لحظات الغضب قد تعطي عواقب كارثية، لكن قد يتبيّن في نهاية المطاف أن العلاقة الشخصية بين جو بايدن وشي جي بينغ، وهما رجلان مختلفان جداً عن بعضهما، ستكون نعمة حقيقية خلال السنة المقبلة.في صيف عام 2011، رافقتُ بايدن حين كان نائب الرئيس الأميركي في زيارة إلى الصين لمقابلة شي جينبينغ عندما كان نائب الرئيس الصيني، وقد شكّلت تلك الرحلة بداية للعلاقة الشخصية بينهما، وتبادل الزعيمان الحديث مطولاً حول الشؤون الشخصية والسياسية أثناء تناول الطعام والتنزه وفي مناسبات غير رسمية أخرى، فوصفا نظرتهما إلى العالم والتحديات التي يواجهها بلد كل واحد منهما. ثم توسّع الرابط بينهما تدريجاً بفضل سلسلة من اللقاءات اللاحقة، منها لقاء بعد وصول شي جينبينغ إلى سدة الرئاسة وتحوّله إلى نظير الرئيس باراك أوباما. لا يزال هذا الرابط القائم منذ عشر سنوات إيجابياً بالنسبة إلى الطرفَين، فحين اتصل بايدن بالرئيس الصيني في 9 سبتمبر، سمع في البداية مجموعة من الشكاوى حول سياسات الإدارة الأميركية الصارمة وفشلها في رفع الرسوم والقيود التي فرضها ترامب، لكن رغم بدء تلك المكالمة الهاتفية باتهامات من شي جي بينغ، فإنها انتهت باتفاق بنّاء حول ضرورة أن يُحدد كبار المسؤولين أسساً مشتركة ويتعاونوا لتنظيم مؤتمر فيديو بين الرئيسَين. ساهمت العلاقة الشخصية بين بايدن وشي جينبينغ إذاً في إضفاء أجواء إيجابية على تلك المكالمة، ولو لم يكونا على معرفة سابقة، لما كان بايدن سيجيد التواصل مع الرئيس الصيني، ولولا الاحترام المتبادل بينهما على مر السنوات، لما كان شي جينبينغ سيأخذ كلام بايدن على محمل الجد.كدليل على قوة الدبلوماسية رفيعة المستوى، أصدرت الحكومة الصينية بياناً بعد تلك المكالمة للتشديد على أهمية التواصل العميق بين القادة، ثم ذكرت وسائل الإعلام الصينية أن الرئيسَين اتفقا على متابعة التواصل وطلبا من المسؤولين تكثيف الحوار والعمل على تطوير العلاقات الثنائية. بين ليلة وضحاها، تغيّرت النبرة المستعملة في نشرات وسائل الإعلام الحكومية، وتبدّلت مواضيع النقاش بين المحللين الصينيين خلال المؤتمرات الدولية، وبدا الكوب نصف الفارغ في العلاقات الأميركية الصينية نصف ممتلئ فجأةً. في ظل الأجواء الأيديولوجية والتقليدية المشحونة في الصين اليوم، لن يجرؤ أي عضو في الحزب الشيوعي الحاكم على التخلي عن مبادئ حزبه من دون موافقة واضحة من الزعيم، لقد شكّلت التحليلات الرسمية للمكالمة بين الرئيسين رسالة إلى المسؤولين في النظام كله: أصبح الانتقال من مقاربة «الذئب المحارب» إلى الحوار خياراً آمناً الآن.قد يصبح مؤتمر الفيديو بين شي جينبينغ وبايدن في 15 نوفمبر محركاً لجهود دبلوماسية فاعلة أخرى، وقد يطلق التزامات جدّية مع كل ما تستلزمه الدبلوماسية من تحقيقات، وتفسيرات، واختبارات، ومفاوضات، وحتى تنازلات، ففي النهاية كان مستشار الأمن القومي، جايك سوليفان، محقاً حين قال: «المنافسة القوية تتطلب دبلوماسية قوية»، ولن تكون قمة افتراضية واحدة كافية لتغيير طبيعة العلاقات، لكنها قد تساعد الطرفَين في إحراز تقدّم معيّن في المجالات التي تهمّهما، بدءاً من منع سباق التسلح وصولاً إلى حماية البيئة، لقد أثبت المفاوضان الأميركي والصيني في ملف المناخ، جون كيري وشيه زينهوا، هذه المنافع المحتملة حين أصدرا بياناً أميركياً صينياً مشتركاً وغير متوقع حول التعاون الثنائي خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في غلاسكو.لن يعود العالم على الأرجح إلى الدبلوماسية الواسعة والرتيبة والمثقلة بالبروتوكولات كتلك التي ارتكزت عليها الحوارات الاستراتيجية والاقتصادية السابقة بين الولايات المتحدة والصين، بغض النظر عن نتائج حوار بايدن والرئيس الصيني، فقد بقيت نتيجة تلك الجهود الدبلوماسية محدودة بالنسبة إلى المسؤولين الأميركيين نظراً إلى غياب الحلول العملية التي أنتجتها تلك المحادثات، لكن تجربة الإدارة الأميركية السابقة كانت عبارة عن فشل ذريع وخطير نتيجة الدبلوماسية الهجومية التي ظهرت في تغريدات الرئيس أو مواقف وزير الخارجية العدائية. التواصل الحقيقي هو عبارة عن خليط بشري يقوم على بناء العلاقات، والإصغاء الفاعل، وأساليب الإقناع، وحل المشاكل بطريقة مبتكرة. لقد أصبحت العلاقات الأميركية الصينية بأمسّ الحاجة إلى هذا النوع من الدبلوماسية، على أعلى مستويات السلطة، لكبح الدوامة السلبية القادرة على إطلاق الحرب.