في غابات مقاطعة «جامبي»، في جزيرة سومطرة الإندونيسية، يفتقر أكثر من نصف سكان «أورانج ريمبا» الأصليين إلى بطاقات هوية صادرة عن الحكومة، وحتى منتصف أغسطس الماضي، كان هذا الوضع يعني أن أعضاء هذه الجماعة يعجزون عن تلقي لقاحات كورونا لأن الحكومة فرضت على الراغبين في أخذ اللقاح أن يحملوا رقم هوية صادراً عن الدولة، ورغم تغيير هذا القانون الآن، لم يتسنَ لمعظم أعضاء «أورانج ريمبا» أن يتلقوا جرعة من اللقاح لأنهم، على غرار معظم السكان الأصليين في إندونيسيا، يعيشون في منطقة نائية، على بُعد ساعات من أقرب مركز تلقيح.هذه العوائق منعت استفادة السكان الأصليين من اللقاحات في أنحاء إندونيسيا، تقول روكا سومبولينجي، الأمينة العامة لـ«تحالف الشعوب الأصلية في الأرخبيل»، إن 20 ألف شخص من أصل 20 مليون نسمة من السكان الأصليين في إندونيسيا (أي 0.1%) تلقوا أول جرعة من لقاحات كورونا بدءاً من 4 أغسطس.
في المقابل، تلقى أكثر من ثلث سكان إندونيسيا جرعة واحدة على الأقل، وبدأت الحكومة توزّع نحو مليون ونصف جرعة يومياً، وهذا التقدم الهائل تكرر في عدد من البلدان النامية الأخرى التي وجدت صعوبة في جلب اللقاحات من الدول الأكثر ثراءً في المرحلة الأولى، لكن غطّى هذا التقدم على نزعة عالمية مزعجة أخرى: تنتظر الجماعات المهمّشة في آخر الصف، بما في ذلك السكان الأصليون، والمنحدرون من أصول إفريقية، وأصحاب الإعاقات، وستكون هذه الفئات آخر من يتلقى اللقاح في كل مكان من العالم.لا يمكن توزيع اللقاحات بالتساوي من خلال زيادة كمية الجرعات العالمية بين الدول وفي داخلها بكل بساطة، بل يجب أن تتعاون الحكومات والمنظمات الدولية مع الجهات المانحة، وجماعات المجتمع المدني، والقادة المحليين لضمان وصول اللقاحات إلى المهمشين، وإلا لن يتلقى ملايين الأشخاص الأكثر ضعفاً اللقاح وسيبقى العالم كله معرّضاً للخطر.
لا مساواة داخلية
زادت الدعوات إلى معالجة مشكلة اللامساواة في توزيع اللقاحات منذ طرح أولى الجرعات في السوق في أواخر السنة الماضية، لكن العالم يحتاج إلى وقت طويل قبل أن يضمن إنتاج لقاحات عالمية متساوية وتسعيرها وتوزيعها بطريقة موحّدة. كانت المساعي الرامية إلى سد الفجوة القائمة بين الدول الغنية والفقيرة بطيئة، لكن بفضل الحملات المتواصلة التي أطلقها فاعلو الخير وقادة المجتمع المدني، بدأت اللقاحات تصل بكميات كبيرة إلى الدول النامية. تجدّد الأمل اليوم بعدما كان معدوماً في السابق.لكنّ إيصال الجرعات إلى الدول ذات المداخيل المنخفضة والمتوسطة هو جزء بسيط من المعركة الكبرى. انتظرت دول نامية كثيرة أشهراً عدة لتأمين اللقاحات بعد البلدان الغنية، ويجد جزء كبير منها اليوم صعوبة في معالجة اللامساواة الداخلية في توزيع الجرعات، لا سيما بين سكان المدن الأثرياء وسكان الأرياف المهمّشين في معظمهم، إذ تشتق الاختلافات من مظاهر اللامساواة المتلاحقة التي تأججت خلال زمن الوباء، كذلك، انتشرت حملات التضليل على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومنعت عدداً كبيراً من السكان المهمشين من تلقي اللقاح، وفي غضون ذلك، أدت مشاكل البطالة والمصاعب الاقتصادية إلى توسيع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، وباتت منظمات المجتمع المدني تفتقر إلى الموارد أكثر من أي وقت مضى، علماً أنها تشكّل صلة الوصل الأساسية بين الخدمات الحكومية والجماعات المهمّشة.في كولومبيا مثلاً، توسّعت الجماعات المسلحة والشبكات الإجرامية في زمن الوباء وباتت تُهدد قادة البلد والمنظمات المحلية التي تؤدي دوراً أساسياً لنشر التوعية حول مسائل الصحة العامة، وفي المناطق التي يتراجع فيها وجود الدولة، كتلك التي تشمل سكاناً أصليين من أصل إفريقي، أعاقت الجماعات المسلحة توزيع اللقاحات عبر منع وصول خبراء الصحة العامة وكبح تدفق الإمدادات اللازمة. زاد الوضع سوءاً لأن الأزمة القائمة في فنزويلا المجاورة أدت إلى ارتفاع عدد المهاجرين الفنزويليين في كولومبيا إلى 1.8 مليون شخص، مما يعني زيادة الضغوط على النظام الصحي الهش أصلاً وتعقيد خطط توزيع اللقاحات.بدءاً من شهر تشرين الأول، تلقى حوالى 40% من سكان كولومبيا الجرعات الكاملة من اللقاح، وأخذ أكثر من نصف سكان المدن الكبرى (63% في العاصمة بوغوتا) جرعة واحدة على الأقل. لكن في المناطق التي تضمّ أكبر عدد من السكان الأصليين والمنحدرين من أصل أفريقي، تتراجع هذه النِسَب إلى النصف تقريباً. في إقليم «شوكو» الشمالي الغربي الذي يشمل عدداً كبيراً من الكولومبيين من أصل إفريقي مثلاً، تقتصر نسبة من تلقوا جرعات كاملة من اللقاح على 26%.لمعالجة غياب المساواة وتسريع إيقاع التعافي العالمي، يحتاج العالم إلى خطة توزيع منصفة ترتكز على تنسيق الجهود بين الحكومات، والمنظمات الدولية، والجهات المانحة، والجماعات المحلية، لتأمين الموارد والبنى التحتية اللازمة في أسرع وقت. أحرزت جمهورية جنوب إفريقيا تقدماً بارزاً في مجال التوزيع العادل ويمكن اعتبارها قدوة في هذا المجال. هي تباطأت في توزيع اللقاحات في البداية (يتعلق جزء من السبب بتخزين الجرعات في الدول الغنية)، لكنها باتت اليوم أسرع من معظم الدول ذات المداخيل المنخفضة والمتوسطة. ابتكر خبراء الصحة العامة ومنظمات المجتمع المدني في جنوب إفريقيا حلولاً متنوعة لبلوغ أبعد المناطق، منها إنشاء معاقل للرعاية الصحية ومراكز تلقيح مؤقتة في الأرياف للوصول إلى الناس في مكان وجودهم، حتى أن الحكومة أرسلت «قطار التلقيح» المليء بمئات آلاف الجرعات إلى مختلف البلدات.مساعدات عالمية وحلول محلية
لن يتمكن كل بلد من إرسال «قطار تلقيح» طبعاً، ولن تكون هذه الخطوة ضرورية أصلاً، لا سيما في الدول التي تفتقر إلى سكك حديدية مناسبة، لكن يُفترض أن يساعد المجتمع الدولي جميع الدول في تجاوز اللامساواة في توزيع اللقاحات، وغالباً ما تتماشى أفضل الحلول مع الظروف المحلية، لكن ثلاثة مبادئ شاملة تنطبق على جميع نماذج التلقيح الناجحة والبنى التحتية التي تدعمها:أولاً، يجب أن تكون الجهود المبذولة محلية بطبيعتها وموجّهة نحو المجتمع ككل، فقد فشلت الحلول العامة في تعديل سلوك البشر أو إحداث تغيير دائم في مناسبات متكررة، لذا يجب أن تقيم الجهات المانحة ومنظمات المجتمع المدني الدولية شراكات مع جماعات لديها علاقات وثيقة مع الفئات المهمّشة، وتُمكّن القادة المحليين من ابتكار الحلول بناءً على تجاربهم الخاصة.على سبيل المثال، ساهمت المنظمة الكينية غير الربحية، «أمل باهر للمجتمعات»، في كبح حملات التضليل المكثفة حول فيروس «كوفيد19» من خلال نشر معلومات صحية عبر قادة محليين موثوق بهم، إذ يستطيع هؤلاء القادة أن يمنعوا المؤامرات عبر مواقع التواصل الاجتماعي بناءً على علاقاتهم مع الجماعات المحلية ويطلقوا حملات توعية حول أهمية اللقاحات في جوارهم.ثانياً، يمكن تحسين مظاهر المساواة في توزيع اللقاحات عبر إزالة العوائق بين الناس والجرعات، وفي هذا المجال، تستطيع منظمات المجتمع المدني ومجموعات مراقبة أخرى أن تؤدي دوراً محورياً لمراقبة المسؤولين المحليين والوطنيين والدوليين ورصد الاختلافات ومظاهر التمييز. من خلال تمويل هذه الجماعات، تستطيع الجهات المانحة الدولية أن تساعدها في ردم الحواجز (منها شروط التسجيل) لتسهيل تلقيح المهمّشين. يضطلع «تحالف الشعوب الأصلية في الأرخبيل» و«جمعية النساء الإندونيسيات ذات الإعاقة» بهذه المهمة اليوم، وفي أواخر شهر يوليو، تعاونت الجماعتان مع أكثر من 200 جهة من المجتمع المدني للدفاع عن حقوق الإندونيسيين الأصليين وأصحاب الإعاقة، وقد بدأت الحكومة تطرح حلولاً بديلة عن متطلبات بطاقة الهوية التي منعت جماعات مهمّشة كثيرة من تلقي اللقاحات سابقاً بفضل حملات الضغط العامة التي أطلقتها تلك الجماعات. أخيراً والأهم، يجب أن تدعم المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين، الجهود المحلية، فهذه المؤسسات تملك صلاحية ابتكار حلول جديدة، وتحسين الحلول المثبتة، ودعم الحكومات في الدول ذات المداخيل المنخفضة أو المتوسطة عبر طرح خطط توزيع عادلة. كذلك، يُفترض أن تستعمل المؤسسات الدولية جميع الأدوات المتاحة لتسريع هذه العملية وإنقاذ الحكومات في الدول النامية من حاجتهم إلى القتال للحصول على جرعات اللقاح كي يتمكنوا من استخدام مواردهم وطاقتهم لمعالجة مشاكل التوزيع، ومن خلال تطبيق المعلومات والحلول المحلية على نطاق عالمي، تستطيع المنظمات الدولية أن تتصرف كشريكة لجماعات المجتمع المدني والمنظمات غير الربحية، فتطلق بذلك حقبة أكثر تماسكاً من دبلوماسية اللقاح والتحركات الجماعية.تستطيع هذه الخطوات مُجتمعةً أن تغيّر طريقة توزيع الخدمات العامة القادرة على إنقاذ حياة الناس حول العالم، فتستبدل النموذج الذي تفرضه الجهات الأكثر نفوذاً بنماذج شعبية ومتخصصة، وفي نهاية المطاف، لا يمكن تجنب وباء عالمي آخر بحجم «كوفيد19» من دون تقوية البنية التحتية الخاصة بقطاع الصحة العامة في أنحاء الدول النامية، لا سيما في المجتمعات التي تحمّلت لفترة طويلة الإهمال والاستغلال والظلم، حيث يجب أن تُعالَج مظاهر اللامساواة بطريقة مباشرة وألا ترتبط حصراً بالواجبات الأخلاقية، بل تتماشى أيضاً مع متطلبات السلامة والصحة العامة.