لم يعد نقص البيانات الاقتصادية الضرورية في الكويت مرتبطاً ببند السرية الذي طالما حجب عن الرأي العام والمختصين بيانات ذات أهمية عالية كحجم الثروة الطبيعية والاحتياطات النفطية أو قيمة صندوق احتياطي الأجيال القادمة أو الأوزان التي تتكون منها سلة الدينار، إنما بات نقص البيانات في السنوات الأخيرة يمس بيانات تفصيلية ضرورية تعتبر مهمة جداً لمتخذ قرارات السياسة المالية أو النقدية في البلاد، والتي تُبنى عليها سياسات حكومية. فبينما كان حديث الاقتصادات العالمية خلال الأشهر الماضية يدور حول ارتفاع التضخم وكيفية احتوائه بالتوازي مع مخاوف آثار اختناقات سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الإنتاج وزيادة الطلب على البضائع وسط أزمة عالمية في الشحن، توقفت الإدارة المركزية للإحصاء في الكويت عن إصدار تقريرها الشهري الخاص بأسعار المستهلكين "التضخم" منذ أبريل الماضي، لتعود في نوفمبر لتعلن بيانات التضخم لشهر يونيو 2021، دون حتى بيان أسباب تأخير إصدار تقرير يعتبر في أعلى درجات الأهمية للدولة والمستهلكين.
تغييب المستهلكين
فغياب بيانات التضخم يعني من جهة تغييباً للمستهلكين عن حقيقة اتجاهات أسواق السلع والخدمات في الكويت كالغذاء والملابس والسكن والنقل والاتصالات والترفيه وغيرها، بالتوازي مع أزمة التضخم العالمية، ومن جهة أخرى يحرم الدولة بيانات مهمة يفترض معرفتها قبل اتخاذ سياسات دفاعية تكبح أو تقلص التضخم في الأسواق، الأمر الذي يعني أن الإدارة المركزية للإحصاء ناقضت الهدف الأساسي من وجودها وهو تقديم البيانات الأساسية للدولة والمجتمع لتسهيل اتخاذ القرارات.غياب الناتج المحلي
ولم يقتصر غياب المعلومات الإحصائية الأساسية على عدم نشر تقارير التضخم وما يرتبط بها من أضرار على الاقتصاد أو المستهلكين، إنما شمل أيضاً تعثراً في إصدار بيانات مهمة تتعلق بتقديرات الناتج المحلي الإجمالي، وهي بيانات ربع سنوية لم تصدرها الإدارة المركزية للإحصاء منذ نهاية العام الماضي، وتكمن أهميتها في أنها تبين لمتخذ القرار القيمة الإجمالية لإنتاج وأعمال جميع القطاعات الاقتصادية في الدولة، فضلاً عن أن الناتج المحلي الإجمالي في الكويت عام 2020 انكمش بنسبة 8.9 في المئة على أساس سنوي بسبب تداعيات أزمة كورونا وتأثيراتها على توقف الأنشطة الاقتصادية وتدهور أسعار النفط، مما يشير إلى أهمية بيان آثار عودة الأنشطة ونمو أسعار النفط على الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما لم تصدره الإدارة المركزية للإحصاء أي لـ 3 بيانات فصلية متتالية!توقف إحصاءات مهمة
ولعل القصور في إصدار البيانات الإحصائية المهمة بات سمة للإدارة المركزية للإحصاء التي توقفت عن نشر العديد من البيانات المهمة للاقتصاد خلال الفترة الماضية دون بيان الأسباب مثل إحصاءات البيئة "المعنية ببيانات جودة الطقس والماء وتأثيرات ارتفاع درجات الحرارة والطقس على الحياة"، كان آخرها "سنوي في 2019"، وكذلك الأمر بالنسبة لإحصاءات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المعنية بحجم تغطية الإنترنت في البلاد أو قدرة السكان على الاتصالات بمختلف أنواعها، وكان آخرها "سنوي في 2019"، ومثلهما بيانات الإحصاء للنقل والمواصلات التي تقدم بيانات اعداد عن المركبات والسائقين والمخالفات المرورية والحوادث، إلى جانب حركة الطيران والبواخر وكل ما يرتبط بالنقل والمواصلات وهي إحصائية سنوية متوقفة منذ عام 2019.تقارير الاقتصاد الكلي
وإذا كانت مسؤولية الإدارة العامة للإحصاء كبيرة عن الإخفاق في عرض البيانات الاقتصادية بشكل منتظم، فإن ذلك لا يعني أنها الوحيدة التي تُسأل عن هذا الإخفاق، وإن كانت تمثل السواد الأعظم فيه، فوزارة المالية أيضاً من الجهات التي تعثرت في إصدار بيانات وتقارير من خلال الإدارة التي تأسست نتيجة اتفاقية بين صندوق النقد الدولي ووزارة المالية عام 2009، وهي "إدارة الاقتصاد الكلي والسياسة المالية" لغرض مراجعة التطورات الاقتصادية في البلاد، وتحليل تأثر السياسة المالية القصيرة الأمد، وتطوير وصيانة قاعدة بيانات خاصة بوزارة المالية وتحليلها، والعديد من السياسات الخاصة بإعداد الميزانية أو الإنفاق والترشيد، لكن هذه الإدارة لم تصدر خلال فترة عملها الممتدة خلال 12 عاماً إلا 3 تقارير "مختصرة" فقط كان آخرها عام 2014!وقف متابعة التنمية
كذلك تسير الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية على خطى الجهات الحكومية التي تخفق في إصدار بياناتها بشكل منتظم، فقد أوقفت نشر تقارير المتابعة ربع السنوية منذ نهاية عام 2020، من دون بيان الأسباب، وهي تقارير يفترض أنها تبين نسب الإنجاز والمصاعب التي تواجه أي مشروع أو برنامج، مما يخفض درجة الشفافية ويزيد احتمالات التعثر فيها إلى جانب الجهاز المركزي للمناقصات العامة الذي توقف عن نشر بيانات الترسية التي كان ينشرها حتى منتصف عام 2019، قبل أن يعود منتصف العام الحالي لينشر تقريراً نصفياً عن عمليات الترسية.ذروة الإخفاق
إن توسع غياب المعلومات الاقتصادية المهمة كالاحتياطات النفطية والمالية باعتبارها "سيادية" فضلاً عن عدم القدرة على إصدار بيانات تفصيلية بشكل منتظم يمثل ذروة الإخفاق في إدارة الملف الاقتصادي، فلا يمكن اتخاذ أي قرار أو سياسة دون إحصائيات تدعمها، وإلا صارت قرارات غير مدروسة بنتائج معاكسة يتحمل ضررها الاقتصاد والمجتمع... مع التأكيد على أنه لا يمكن تحميل أزمة كورونا مسؤولية الإخفاق في إصدار التقارير، بوصفنا أحوج ما نكون لمعرفة الإحصائيات والبيانات الدقيقة في فترات الأزمات وما يصاحبها من تقلبات شديدة.