خلال حواره مع طلاب برنامج «الجوهر» التدريبي، الذي تقيمه أكاديمية لوياك للفنون الأدائية (لابا)، حذر أستاذ العلوم العربيــــــــة والإسلاميـــــــــة المفكــــــر اللبنـــاني د. جورج صليبا من اللحظة التاريخية التي يعيشها لبنان، قائلا: «إنها مرحلة خطيرة، فمن المعروف أن تدمير أي مجتمع يبدأ بفقدان ثقة الشعب بالسلطة والسياسيين والمرشدين الدينيين والمصارف، فضلا عن أن شبابه يلهثون خلف الهجرة، علما أنهم الوحيدون القادرون على إنقاذ البلد»، داعيا إياهم إلى «طرح الأفكار الجديدة، وألا يدعوا اليأس يدخل قلوبهم»، مشددا على أن «الشهادة لا تبني الأوطان، إنما الأحياء الذين يوظفون الشهادة لمصلحة الوطن».

وعقدت هذه الحلقة الحوارية في بيروت، تحت إشراف الإعلامي اللبناني زافين قيومجيان، بينما انضم المشاركون من الكويت عبر تطبيق «زوم»، وتطرقت المحاور إلى الوضع اللبناني الراهن وأسباب فشل ثورة 17 أكتوبر 2019، وأهمية فصل الدين عن الدولة، وواقع الحضارة العربية والإسلامية وعلوم الفلك والفضاء.

Ad

مرحلة خطيرة تعصف بلبنان

وفي سياق إجابته عن أسباب فشل الثورة في لبنان، أكد د. صليبا أن «أي انتفاضة وأي تعبير رأي يخلق على الأقل حديثا، والحديث بحد ذاته بداية للتفكير، لكن التغيير يحتاج إلى الوقت، فبلدان العالم لا تتغير بين ليلة وضحاها»، وتوجه للطالب باسل الدنف، بالقول: «من المحتمل أن يحصد أحفادكم ما تقومون به اليوم من محاولة تغيير، تماما كما حصدنا وما زلنا هفوات لبنان الطائفي، الذي زرعوه عام 1920، فكان ذلك الزرع اللعين. وآسف لما وصل إليه لبنان، حيث بات شعبه ينتظر العدالة السماوية للحصول على مدخراته في المصارف، وشبابه يلهثون خلف الهجرة، علما أنهم الوحيدون القادرون على إنقاذ البلد، وهنا تكمن المأساة العظمى».

وعما إذا كانت الفدرالية هي الحل الواقعي في لبنان، قال: «لبنان بأكمله لا يقارب نصف مساحة مانهاتن الأميركية، فهل نقسمه أكثر مما هو منقسم؟! إنها أحلام وطروحات فئات تحاول منذ أكثر من 40 عاما أن تعبر عن عدم قبولها للآخر، بدلا من الحوار معه وطرح الإشكاليات والوصول إلى حلولٍ موحدة»، مؤكدا أنه لو كان بموقع المسؤولية، ولو تسلم المجلس النيابي اللبناني على سبيل المثال، فكان سيعمد فورا إلى صرف النواب من الخدمة، وإلغاء بدعة دفع رواتب النواب إلى أبد الآبدين، «فالنائب موظف لخدمة الشعب وليس لامتصاص أموال الشعب أو تهريب الأموال خارج البلاد».

وردا على سؤال طرحه قيومجيان حول اللحظة التاريخية التي يعيشها لبنان، أردف: «إنها مرحلة خطيرة، فمن المعروف أن تدمير أي مجتمع يبدأ بفقدان ثقة الشعب بالسلطة والسياسيين والمرشدين الدينيين والمصارف، في ظل غياب القيادي المسؤول، وهذا ما نفقده منذ التكوين الأول للبنان، أي منذ عام 1920، فالمسؤول الوحيد الذي أغلق كل أبواب السرقة وخلق نوعا من المسؤولية في الدولة اللبنانية كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب، في حين نشهد اليوم مؤامرات حول كيفية حكم البلد».

وردا على الطالب بلال غازية حول نصيحته للشباب اللبناني أفاد: «ليتني أستطيع دعوتكم للصمود والمطالبة بحقوقكم، لكن الصمود يحتاج إلى الدعم، لا أن تتحولوا إلى ضحايا وشهداء، فالشهادة لا تبني الأوطان، إنما الأحياء الذين يتبنون الأفكار ويوظفون الشهادة لمصلحة الوطن، لذلك أشد على أيديكم مواصلة طرح الأفكار الجديدة وألا تدعوا اليأس يدخل قلوبكم»، وحول اختياره القومية اللبنانية أو السورية أو العربية، ذكر: «ولا واحدة منها، كلها تعابير فارغة منذ زمنٍ بعيد، ويتعين عليكم اليوم تكوين القومية التي تخطط لمستقبلٍ يحترم فيه الإنسان حق أخيه الإنسان ويتعاون فيه الجميع لبناء مستقبلٍ أفضل لأولادهم».

موارد النفط لم تُستثمر لنهضة العرب والإسلام

وفي معرض إجابته على الطالبة غوى القاضي، حول أسباب تراجع دور الحضـــارة العـربيــــة والإســلاميــــــــة، لـــفـــت د. صليبا إلى أن «الحضارات نشأت وانتعشت عندما دعمت ماديا، ومن بينها الحضارة الغربية التي اكتشفت الذهب والفضة في الولايات المتحدة، ومن ثم موارد أخرى في افريقيا، ووظفتها في تمويل المشاريع والأكاديميات العلمية والعِلم الحديث الذي نتباهى به اليوم، وبالتالي ليس بسبب تراخي الكنيسة التي كانت تسيطر على الفكر».

وأوضح لرئيسة مجلس إدارة أكاديمية «لابا» فارعة السقاف أنه يقصد بالحديث عن أهمية الرأسمال في تشييد الحضارات، «الالتفات للإنسان والاستثمار بالعقل البشري وقدراته لصناعة الحضارات، أي بالعقول المفكرة التي سينتج عنها العِلم الجديد والحضارة الجديدة»، متابعا: «الأهم الإحساس بالمسؤولية وهو بحد ذاته الحس الأخلاقي الذي تحدثت عنه السقاف، والذي يحقق التقدم المرجو».

ولدى سؤال قيومجيان حول سبب عدم استثمار موارد النفط في تقدم الدول العربية وخلق فكر عربي جديد، أجاب: «مع الأسف الشديد، كل مصادر الطاقة لا يمتلك العرب زمام أمرها، فهي مُقدمة هبات لشركات غربية وأجنبية، تستفيد منها بلدان الاستعمار التي قسمت وشرذمت الدول العربية، والمشكلة الأساسية تكمن في كيفية استثمار أموال المتمولين العرب لخير المجتمع أو لتعزيز الإنتاج الاقتصادي وبناء المجتمع».

أما الطالب مُطلق جمال الحسين فسأل عن أزمة الهوية لدى شعوب المنطقة العربية والإسلامية، حيث قال صليبا: «الاستعمار يتعمد تشويه الهوية الشخصية للبلدان المستعمرة، ولا نزال لليوم تحت وطأته، مع العِلم أن مشكلة إعادة تثبيت الهوية لا تنحصر في منطقتنا فحسب، بل تعاني منها الهند والصين وأميركا اللاتينية والبلدان الافريقية وحتى الآسيوية».

وعن كيفية خروج العرب من الانتكاسة الحضارية والثقافية، أردف: «الأمل الوحيد بالشباب العربي وبانتهاجهم طرق تفكير جديدة، باستقلالية قرارهم واعتمادهم على أنفسهم، وبالتالي امتلاكهم رؤية واضحة لا مجرد أحلام، إنما تفكير ذاتي واستراتيجية لإعادة بناء مجتمع جديد، وهذا ما ينطبق على لبنان، فما من أحد يهدينا الاستقلال، وما من قرارات ثورية تغير التاريخ من دون أن ندخل معها السجون».

واستعرضت الحلقة الحوارية ما يوفره الغرب من فرص نجاح وتميز في مختلف المجالات العلمية والفكرية، حيث أشار د. صليبا إلى أن «دول الغرب تستفيد من المؤهلات الفكرية للشباب العربي الهارب من الفقر والظلم، وتستثمرها في مختبراتها وأبحاثها العلمية»، داعيا الجامعات في العالم العربي إلى «تعزيز دورها لناحية إثارة الفضول وتنمية الإبداع»، وشدد على «أهمية تناقل الإرث الشفهي عبر الأجيال، كالشِعر الشعبي واللباس والمأكولات التقليدية، لاسيما أنه إرث مهم يرسخ التاريخ والمسؤولية الأخلاقية، ولا يمكن استعادته من خلال محرك البحث غوغل».

الإيمان لا يوقف التطور

وحول سبب عدم فصل الدين عن الدولة في الدول العربية حتى الآن، ذكر صليبا: «هناك مَن يربط بين التقدم وفصل الدين عن الدولة، لكن أكثر من 50 في المئة من الشعب الأميركي مثلا ينتخب على أساس الدين. لذلك، فإن الإيمان لا يوقف التطور».

وتابع ردا على سؤال الطالبة سمر الكريدي عن مدى اعتبار الديموقراطية في الدول العربية وهما، تابع: «حتى في العالم الغربي تختلف الديموقراطية بين بلدٍ وآخر، وهي لا تتحقق إلا بقبول الآخر والتفاهم معه»، مؤكدا أن «الديموقراطية تليق بالشعوب العربية، غير أننا لم نر الديموقراطية، إنما رأينا مصالح استعمارية بين الإنجليز والفرنسيين».

من جهتها، سألت الطالبة زنوبيا ضاهر عما إذا كانت أزمة الإسلام الحالية تكمن في كيفية قراءته للنص القرآني وتأويل هذا النص، حيث أفاد د. صليبا بأن الحضارة الإسلامية مفتوحة على كل الطروحات، وبإمكان أي مفسر أن يصبح مرجعا عند التفاف الناس حوله، ما من شأنه أن يخلق حركة إسلامية جديدة وأن يصنف العالم بين كافر من عدمه».

وبين الرأسمالية الليبرالية والاشتراكية الشيوعية، رأى أنها «شعارات فارغة اضمحلت وانتهت، فالليبرالية الحديثة تمثل قمة الفساد وانعدام الأخلاق وتشكل خطرا على المجتمعات، والفكر الشيوعي مشاكله أعظم، والفكران لم يتمكنا من حل مشكلة الإنسان. يجب تكوين أفكار جديدة تساعد الشباب في المجتمعات المأزومة على تحقيق أحلامهم وضمان مستقبلهم».

ظلم تاريخي بحق الشعب الفلسطيني

وعن مستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي، اعتبر د. صليبا أن «وعد بلفور هو الجرم الأكبر بحق الشعب الفلسطيني، فهو ظلم تاريخي مسؤول عنه بالدرجة الأولى الاستعمار الانجليزي»، وأضاف في سياق إجابته على الطالب بلال غازية: «نحن العرب نتكلم كأشخاص لا كعرب، وتمثلنا أنظمة لا تمثلنا، تملي عليها دول الغرب توقيع المعاهدات والتطبيع، وهو ما خططت له الحركة الصهيونية منذ أكثر من 100 سنة».

وحول كيفية تعاطيه مع طالب إسرائيلي أو شخص يؤيد الفكر الإسرائيلي، أضاف: «أحترم كل فرد يناصر الشعب الفلسطيني ويدرك الظلم الذي لحق به، علما أننا نجد في إسرائيل مَن يطالب بحقوق الشعب الفلسطيني أكثر مما يوجد في كل العالم العربي مجتمعا، وكل صوت من هذه الأصوات يعادل كل الجيوش العربية»، معربا عن فخره بأنه كان من أوائل الأشخاص الذين دعموا حركة مقاطعة المؤسسات والأكاديميات والجامعات الإسرائيلية في كولومبيا، كي تعترف بحقوق الفلسطينيين».

السلاح النووي سباق لكسب المال

وعن سباق الفضاءات بين الدول، أجاب د. صليبا على سؤال الطالب مطلق، بالقول: «السباق بين روسيا والولايات المتحدة لم يعد سياسيا، إنما سباق نحو العِلم الذي بات يحدد مستقبل الدول، ما خلق ثورة علمية فكرية في الولايات المتحدة، لكن المشكلة تكمن في تزايد عدد الأقمار الصناعية وانتشارها من دون ضوابط». وحول السباق إلى التسلح النووي، أضاف: «يلعبون بمستقبلنا ومستقبل الإنسانية، فكوكب الأرض ضعيف جدا والإشعاعات النووية تدمر الحياة عليه إلى الأبد. للأسف إنه سباق لكسب المال، وهذا السلاح سيدمر هذه الدول ويدمرنا».

أما عن احتمال نهاية العالم خلال السنوات القليلة المقبلة فلفت إلى أنه يطبق ما درسه في علم الرياضيات على علم الفلك، «وكل ما يتم تداوله يبقى في إطار التنبؤات». وبشأن تأثير الكواكب والأبراج على الإنسان قال: «لا شك في أن دورة الكواكب تؤثر علينا، فنحن لا نعيش في عالم منفصل عنها، لكن التنبؤ بالمستقبل يبقى مجرد تكهنات، وهناك من يجني الأموال من علم الأبراج».

أسلوب حوار متميز

من جهته، أشاد قيومجيان بجهود المشاركين وحبهم للمعرفة، وتميز أسلوبهم الحواري، قائلا: «توجنا أسبوعا من الأبحاث والنقاشات التي قمنا بها في إطار ورشة تدريبية بدأت إعلامية وانتهت فكرية، فكانت بالفعل جوهر الكلام».

وفي ختام الحلقة شكرت السقاف د. صليبا على «هذا الحوار الذي أثلج قلوبنا»، مشيدة بإدارة قيومجيان للورشة التدريبية، ونوعية الأسئلة التي طرحها طلاب برنامج «الجوهر».

بدورهم، أعرب المشاركون عن سعادتهم للمشاركة في البرنامج، ما أتاح لهم اكتساب الخبرة وتحقيق جزء من شغفهم، خصوصا أنهم يعيشون في بلدٍ قاتلٍ للطموح والأحلام، وفق قول بعضهم، وعبروا عن امتنانهم لهذه التجربة الاستثنائية، حيث تمنى المشارك باسل الدنف أن يصبح فردا من «لابا» لما قدمه له البرنامج من قيمة مضافة، متابعا: «أريد أولا أن اشكر الجوهر على هذه الفرصة القيمة التي اعطانا اياها لتزيدنا مهارة وثقة ومهنية عالية، وأتمنى أن أنتمي إلى هذه المؤسسة وأصبح فردا منها».

وكانت المشاركة زنبويا ظاهر ممتنة لاحترافية البرنامج، قائلة: «شكرا لأنكم تعملون باحتراف. عادة ما تكون دورات التدريب الاعلامي مجرد تجارة. ستتمكنون بهذا من تغيير الواقع الاعلامي الذي لا يشبه تطلعاتنا كجيل».

أما بلال غازية فشكل له البرنامج حافزا للعمل للتطور، حيث قال: «شكرا لكم على هذه الورشة التدريبية المميزة، فعلا خطوة ممتازة وتجربة رائعة بالنسبة لي، اكتسبت مهارات عديدة. بالتوفيق والنجاح الدائم فأنتم تساعدوننا في تطوير مهاراتنا الإعلامية ونحن نتحفز للعمل دائما عندما نلتقي بكم».