ماذا تريد روسيا؟
ما الذي يريده الروس؟ يبدو أن موسكو تبذل قصارى جهدها لتأجيج الاضطرابات في "جوارها القريب": إنه المصطلح الذي يستعمله الروس للإشارة إلى الإمبراطورية السوفياتية السابقة، وتحديداً الجمهوريات السوفياتية القديمة والمجاورة للاتحاد الروسي، لكن هذا التوجّه يُعتبر غريباً.تفيد التقارير مثلاً بأن الجيش الروسي بدأ يحشد قواته على طول الحدود الروسية الأوكرانية، فقد تكون موسكو متواطئة مع حكومة بيلاروسيا لإغراق بولندا وليتوانيا ولاتفيا باللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، حيث وضعت المصادر الرسمية في بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا هذه الجهود الرامية إلى افتعال أزمة لاجئين في خانة "الهجوم الهجين" ضد الاتحاد الأوروبي، وفي غضون ذلك، يتعقب الجيش الروسي تحركات القوات البحرية التابعة لحلف الناتو في حوض البحر الأسود ويستنكرها في مناسبات متكررة، وفي الصيف الماضي، هدّدت موسكو بقصف السفن البحرية التي تستعمل حق المرور البريء عبر مياه شبه جزيرة القرم.تهدف الاستراتيجية الأصلية إلى تحديد الأولويات وتنفيذها، ومن خلال ممارسة ضبط النفس، يحتفظ القادة السياسيون والعسكريون بالموارد اللازمة لتنفيذ أهم الالتزامات، لكنّ الالتزامات المتكاثرة، أي محاولة تحقيق جميع الأهداف المنشودة، تستنزف الموارد الدبلوماسية والعسكرية وتُقسّمها، مما يؤدي إلى إضعاف الموارد المطلوبة لتنفيذ أي التزام، ويبدو أن الرئيس فلاديمير بوتين وفريقه يضاعفون النقاط الساخنة على طول حدودهم عمداً، فهل يمكن لومهم إذاً على هذا المستوى الهائل من عدم الانضباط الاستراتيجي؟ ليس بالضرورة.
أحياناً، قد يعطي حس المغامرة مجموعة منافع مقابل كلفة متدنية، وهذا ما يحصل مثلاً خلال أي منافسة استراتيجية في زمن السلم كتلك الناشئة اليوم، فقد تطلق موسكو حروباً هجينة في جميع المساحات المحيطة بروسيا لأن القادة الروس يريدون أن يفرضوا قراراتهم على الدول المجاورة لهم، وهم مقتنعون على الأرجح بمنافع استمرار الاضطرابات في الجوار، لكن يجب ألا يستخف أحد بعامل المتعة كدافع لهذه التحركات، ويسهل أن نفترض أن بوتين يستمتع بخوض الألاعيب الجيوسياسية، ولا شك في أنه سيزداد سروراً إذا نجح في تأجيج مشاكل خصومه من دون إفلاس خزينة بلده، وفي هذه الحالة، يمكنه تطبيق المنطق الاستراتيجي الذي يناسبه.لكن قد يتحقق احتمال أكثر سوءاً، لنفترض مثلاً أن موسكو قررت في مرحلة معينة اتخاذ خطوة دراماتيكية في محيط روسيا، أو ربما تريد بكل بساطة أن تطرح خياراً يسمح لها باتخاذ خطوة مماثلة، وفي هذه الحالة، قد يعتبر أقطاب روسيا أن استمرار الاضطرابات في المنطقة الحدودية كلها منطقي قبل توجيه ضربة هجومية في بعض المناطق، وقد تشكّل الحروب الهجينة التي تفرضها الظروف حينها جزءاً من خيبة كبرى تهدف إلى منع الخصوم من تحديد موقع أو توقيت تنفيذ الضربة المحتملة. قد تحصل تلك الضربة في أي زمان ومكان، وقد لا تحصل مطلقاً.يمكن تشبيه المشكلة القائمة بمعدل الإشارات نسبةً إلى الضجة في مجال العلوم والهندسة. ستكون الإشارات دليلاً على التحضيرات الروسية لتنفيذ تحرك عسكري حاسم، في حين تشير الضجة إلى الاضطرابات التي تفتعلها روسيا في ساحات قتال محتملة مثل البلطيق وبولندا وأوكرانيا، وكلما زادت الضجة التي تُسببها تحركات المعتدين المؤذية والمتعمدة، زادت صعوبة رصد الإشارات وإطلاق رد فاعل. تُذكّرنا هذه المقاربة بالجيش الوهمي الذي قاده الجنرال جورج س. باتون في بريطانيا العظمى، وقد نشأت تلك القوة في الأساس لإقناع القادة الألمان بأن قوات الحلفاء ستهبط في بلدة "كاليه" الفرنسية في عام 1944، لا على شواطئ النورماندي. عمد قادة قوات الحلفاء إلى رفع مستوى الضجة لإخفاء الإشارة الحقيقية، فلم يكن الوصول إلى الشاطئ في يوم إنزال النورماندي سهلاً بأي شكل، لكنه يبقى أسهل من الوضع الذي كان سينشأ لو لم يستعمل باتون تلك الخدعة.يسمح الخداع دوماً بإخفاء الحقيقة تزامناً مع استعمال مظاهر مزيفة، فهذا الأسلوب يربك الخصوم ويتعبهم ويضعفهم، فيزيد احتمال أن يوجّه المقاتل المغامر ضربة سريعة وقاضية ضد الطرف المستهدف.قد يُمهّد نشر الفوضى على حساب الدول الخارجية القريبة وحلف الناتو والولايات المتحدة لتحقيق الأهداف الروسية الجيوسياسية، لكن موسكو تعتبر هذه المقاربة مناسبة لتنفيذ نزواتها بكل بساطة، وهذا ما يجعل فلاديمير بوتين منافِساً أقوى من أي شخصية تملك أسلحة إضافية لكن تبقى جدّية أكثر من اللزوم، مثل شي جين بينغ، وقد يكون بوتين ضعيفاً على بعض المستويات إذاً، لكنه يبرع في خوض هذه اللعبة.