سياسة تركيا البراغماتية في البلقان تبقى محدودة!
استضاف الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حديثاً ميلوراد دوديك، عضو مجلس رئاسة البوسنة والهرسك الثلاثي، في أنقرة لمناقشة الأزمة السياسية القائمة في البوسنة بسبب تهديد دوديك بالتخلي عن مؤسسات الدولة، وفي بداية نوفمبر، زار الزعيم البوسني، بكر عزت بيغوفيتش، إردوغان في إسطنبول للتطرق إلى المسألة نفسها، ومنذ بضعة أشهر، كانت تركيا منشغلة أيضاً بشؤون البلقان.في أواخر شهر أغسطس انطلق إردوغان في جولة مدتها ثلاثة أيام إلى البلقان، فزار البوسنة ومونتينيغرو، ففي البوسنة، كان إردوغان شاهداً على زفاف ابنة عزت بيغوفيتش، ياسمينا، ويكشف تكثيف اللقاءات التركية مع مسؤولين من البلقان في الفترة الأخيرة أن سياسة تركيا في هذه المنطقة تستطيع التكيف مع التغيرات، وهي ترتكز على البراغماتية بدل مفاهيم إيديولوجية مثل النزعة العثمانية الجديدة، وتفترض هذه المدرسة الفكرية الحديثة أن تركيا المعاصرة تحتاج إلى استرجاع نفوذها الجيوسياسي في أنحاء الأراضي العثمانية السابقة.لكن يثبت صمت تركيا الأولي خلال أزمة البوسنة الراهنة، رغم طموحات إردوغان بتأدية دور الوساطة، بأن قوة أنقرة تبقى محدودة في البلقان.
قصد الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، إسطنبول في 18 سبتمبر الماضي، واجتمع مع إردوغان وعبّر عن رغبته في أن يزور الرئيس التركي صربيا، وأثبت ذلك اللقاء أن الحوار لم ينقطع بين الطرفين، لكنّ حصوله بعيداً عن وسائل الإعلام يؤكد وجود ارتباك معيّن في هذه العلاقة.أول درس يمكن استخلاصه من هذا الوضع هو أن أنقرة لا تحرق جميع الجسور رغم استيائها من بعض البلدان، لا سيما إذا تعلّقت المسألة بأهم الدول المؤثرة. بنظر تركيا، تُعتبر صربيا والبوسنة من الدول المهمة، وقد اتضح ذلك في أكبر مشروع تركي في المنطقة: الطريق السريع بين بلغراد وسراييفو.أما الدرس الثاني، فهو يتعلق بمحاولة أنقرة الابتعاد عن صورة البطلة بنظر المسلمين في البلقان وتفضيل تأدية دور الوساطة بين مختلف الجماعات العرقية في المنطقة. اتّضح هذا التوجه خلال زيارة إردوغان إلى البوسنة ثم زيارة دوديك إلى تركيا، فأصبح الزعيمان بذلك شريكَين سياسيَين مقبولَين.طوال سنوات، كان دوديك ينتقد سياسات تركيا في البوسنة، أما إردوغان، فكان يشدد دوماً على علاقة تركيا المميزة مع البوشناق، حتى أن الرئيس التركي أعلن في إحدى المناسبات أن علي عزت بيغوفيتش، رئيس البوسنة المسلم في زمن الحرب، سلّمه البوسنة حين كان على فراش الموت.بعد منع إنكار الإبادة الجماعية بقرار من المبعوث الدولي السابق في البوسنة، فالنتين إنزكو، أطلق دوديك والمنطقة ذات الأغلبية الصربية في البوسنة، أي جمهورية صرب البوسنة، حملة مقاطعة لمؤسسات الدولة، لكن بقي دوديك مستعداً لمقابلة إردوغان في سراييفو رغم تلك المقاطعة.في هذا السياق، غرّد مستشار دوديك السياسي، ميلان تيجلتيجا، ما يلي: «إذا قال بكر إن علي عزت بيغوفيتش سلّم إردوغان مسؤولية البوشناق في البوسنة والهرسك، فسيكون إشراك إردوغان في المحادثات حول البوسنة منطقياً. في نهاية المطاف، يحمل الصرب تاريخاً طويلاً من الاتفاقيات المنطقية مع الأتراك، بغض النظر عن الحروب. تفتقر النخبة السياسية البوسنية إلى هذه النزعة العقلانية تحديداً».
عزلة مشتركة من الغرب
رغم تفاقم الأزمة السياسية في البوسنة، لا شيء يشير إلى قطع العلاقات بين دوديك وإردوغان، وبما أن الأوساط الغربية لا تحبذ دوديك ولا إردوغان، فقد يكون الحوار بين الزعيمَين مؤشراً رمزياً للغرب على عدم عزلتهما.غالباً ما تكون المبادرات تجاه البوسنة طريقة يستعملها إردوغان لتحدي الاتحاد الأوروبي في جواره، ويثبت الرئيس التركي أمام بروكسل اليوم أنه يستطيع التعامل مع البوشناق وصرب البوسنة، كذلك، يكشف لقاء إردوغان مع الرئيس الكرواتي ميلانوفيتش خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة نزعته إلى عقد الصفقات مع مختلف الجماعات العرقية في البلقان، وتزداد أهمية هذه الخطوة تزامناً مع وضع مسألة البوسنة ومكانة الكروات البوسنيين على رأس أولويات ذلك الاجتماع.كان استياء أنقرة من بلغراد عاملاً مؤثراً آخر على الأرجح، فقد أخبر إردوغان الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش أن القادة الصرب الآخرين في المنطقة مستعدون للتحاور معه إذا أراد التواصل مع الصرب.تؤثر العلاقة القائمة بين فوتشيتش ودوديك على ما يحصل أيضاً، ويقال إن بلغراد تسيطر على صرب البوسنة، لكنّ الواقع أكثر تعقيداً بكثير، ورغم هذه العلاقة الودية ظاهرياً بين فوتشيتش ودوديك، لا يتبادل الرجلان الثقة. عملياً، لا يستطيع أي سياسي في صربيا أن يظهر وكأنه لا يحمي صرب البوسنة محلياً، ما يثبت أن قيادة هذه الجماعة تبقى مهمة، لكن يخشى القادة في بلغراد أن يجرّهم إخوتهم في البوسنة إلى صراع غير مبرر. في المقابل، يخشى قادة صرب البوسنة أن تبيعهم بلغراد عبر عقد صفقة كبرى مع الغرب أو تحاول استبدالهم بخيار سياسي أكثر أماناً.لن تكون هذه الصفقة الأولى من نوعها، ففي السنة الأخيرة من حرب البوسنة بين العامين 1992 و1995، شارك الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش في مفاوضات مع الغرب، فهمّش بذلك قادة صرب البوسنة، ولهذا السبب، يسعى دوديك إلى كسب هامش من الاستقلالية عن شقيقه الأكبر في بلغراد عن طريق إردوغان.تحولات غير متوقعة
يتعلق الدرس الثالث بالتحديات التي تواجهها تركيا ميدانياً ويجب أن تتكيف معها بأي ثمن، حتى في الأراضي الصديقة لتركيا مثل سنجق، حيث يتمتع إردوغان وتركيا عموماً بمكانة رفيعة المستوى بنظر البوشناق في سنجق، فخلال زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى صربيا، تعهد السفير التركي في صربيا، هامي أكسوي، بإطلاق استثمارات تركية جديدة في سنجق، لكن لم يتضح بعد مدى استعداد أنقرة لتنفيذ هذا الوعد، وقد أصبح الوقت مناسباً اليوم لفعل ذلك إذا كانت تركيا جدّية في وعودها.لكن رغم شعبية إردوغان وبلده في سنجق، تبقى الاستثمارات الاقتصادية في المنطقة ضئيلة ولا تتماشى مع التوقعات الإيجابية التي يحملها السكان المحليون، وفي الوقت نفسه، بدأ المشهد السياسي الداخلي في سنجق يتغير بكل وضوح. تفوّق «حزب العدالة والمصالحة» الأحدث عهداً، بقيادة المفتي السابق معمر زكورليتش، على الحزبَين السياسيَين التقليديَين في سنجق، وهما «حزب العمل الديمقراطي» و«حزب سنجق الديمقراطي»، لكن توفي زكورليتش فجأةً في الفترة الأخيرة.تحرّك زكورليتش بعد تلقي دعم مباشر من الحكومة الصربية، لكنه كان أكثر انتقاداً لتركيا وأقرب إلى دول الخليج عموماً، على عكس الأحزاب البوسنية التقليدية، وقد يسمح أي استثمار تركي كبير في المنطقة بإعادة ترسيخ مكانة تركيا نظراً إلى التغيرات الحاصلة في السياسة المحلية في سنجق، وقد أدت وفاة زكورليتش المفاجئة إلى نشوء فراغ يصعب أن تملأه بلغراد وأنقرة معاً.أما الدرس الأخير الذي يمكن استخلاصه من كل ما يحصل فيتعلق بحدود السياسة الخارجية التركية، رغم الخطابات الرنانة. تباطأت تركيا في التحرك لمعالجة أزمة البوسنة في المرحلة الأولى رغم مناشدات الجماعات البوسنية والمنظمات غير الحكومية في تركيا، وتبدو أنقرة مستعدة لنقل هذه المهمة الشاقة إلى الغرب، إذ تبقى قدرات تركيا في منطقة البلقان محدودة مقارنةً بالغرب. وتنشغل الحكومة التركية أصلاً بمشاكلها الداخلية، منها شائعات حول تدهور صحة إردوغان والتحضيرات للانتخابات العامة في عام 2023.في الوقت نفسه، تنشغل تركيا بالوضع المضطرب في الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط والقوقاز، وعلى مستوى القيود الدولية أيضاً، تضطر أنقرة دوماً لتعديل سياستها في البلقان بناءً على طريقة تعاملها مع علاقاتها الثنائية مع بلغراد، ولا ننسى أهمية روابطها مع الغرب وروسيا.تخوض روسيا والغرب معركة شاقة في مجلس الأمن بسبب البوسنة، وفي غضون ذلك، باتت تركيا مضطرة للتنسيق مع روسيا في منطقة البلقان وفي مسائل شائكة أخرى مثل القوقاز، وقد اتضحت أهمية هذه الخطوة في لقاء حديث بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ومولود جاويش أوغلو، ويبدو أن الجماعات المتناحرة في البوسنة ترحّب بفكرة أن يؤدي إردوغان دور الوساطة، لكن يجب أن تتوخى أنقرة الحذر دوماً عند اختيار توقيت وأسلوب تحركها في البلقان.تثبت الاتصالات التركية الأخيرة مع البلقان أن سياسة البلد الخارجية في المنطقة ترتكز على البراغماتية وأن أنقرة تجيد التكيّف مع الظروف الإقليمية المتبدلة، وقد أثبتت قضية سنجق أيضاً أن السياسة الإقليمية التركية لا تخلو من المشاكل.قد يشيد إردوغان بالسلطنة العثمانية في خطاباته، لكنه يهتم في نهاية المطاف بتحقيق أهدافه، وفي ظل أزمة البوسنة الراهنة، من الواضح أن تركيا لا تستطيع إحراز تقدّم كبير في البلقان رغم طموحاتها ومواقفها الرنانة، وفي مطلق الأحوال ثمة أمر مؤكد واحد: في البلقان، لا أحد يثق بأحد في هذه الأيام.• فوك فوكسانوفيك– البلقان إنسايت