رهان لوكاشينكو الفاشل
يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة على حدوده مع بيلاروسيا، إذ يحاول المهاجرون القادمون بشكلٍ أساسي من الشرق الأوسط دخول دول الاتحاد من خارج المعابر الرسمية بمساعدة السلطات البيلاروسية، وبالقرب من معبر "كونيتشا– بروزجي" على الحدود البولندية، يقيم نحو 4 آلاف شخص في مخيمات مؤقتة وسط درجات حرارة متجمدة، ويقال إن السلطات الأمنية البيلاروسية لا تسمح للمهاجرين العالقين على حدود الاتحاد الأوروبي بمغادرة المنطقة، وتشير التقارير إلى موت عدد من الأشخاص على طول الحدود في الأيام الماضية بسبب انخفاض حرارة الجسم على ما يبدو.اتّهم المسؤولون في الاتحاد الأوروبي رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، بهندسة حركة الهجرة رداً على العقوبات المفروضة ضد نظامه غداة حملة القمع المحلية العنيفة التي بدأت بالصيف الماضي ضد المحتجين والإعلاميين والمعارضين، غداة الانتخابات الرئاسية الشائبة، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.طرح هذا الوضع تحديات صعبة على الاتحاد الأوروبي ككل وعلى ثلاث دول أعضاء تتقاسم حدوداً مشتركة مع بيلاروسيا: بولندا، وليتوانيا، ولاتفيا. ربما شكّلت الخلافات السياسية حول غياب أي سياسة لجوء مشتركة في الاتحاد سبباً لتأجيج الاضطرابات، فظن لوكاشينكو أن الشرخ الأخير بين بروكسل ووارسو بسبب التراجع الديموقراطي في بولندا يجعل الحدود البولندية أكثر عرضة للضغوط.
لكن أعطى رهان لوكاشينكو نتائج عكسية على ما يبدو، فرغم المخاوف المشروعة التي عبّرت عنها جماعات حقوق الإنسان حول غياب الشفافية على الحدود البولندية والتقارير التي تشير إلى القمع الذي يمارسه حرس الحدود ويتعارض مع قواعد الاتحاد الأوروبي والقانون الدولي، شدد المسؤولون في الاتحاد الأوروبي على تضامنهم مع بولندا لإدارة الأزمة القائمة. في 15 نوفمبر، وافق الاتحاد على فرض جولة خامسة من العقوبات لاستهداف 30 فرداً وكياناً بيلاروسياً، منهم وزير الخارجية وشركة الطيران المملوكة للدولة "بيلافيا".كذلك، أشرك الاتحاد الأوروبي دول المنشأ والترانزيت في جهود منع تدفق المهاجرين، وحققت هذه الجهود نجاحاً أولياً، فقد أعلنت تركيا قبل أيام أنها تستعد لمنع العراقيين واليمنيين والسوريين من شراء تذاكر سفر والتوجه إلى بيلاروسيا من مطاراتها، ويبدو أن دبي ستحذو حذوها، على غرار عدد من شركات الطيران الإقليمية، وفي غضون ذلك، أعلنت الحكومة العراقية حديثاً أنها بصدد ترحيل المهاجرين العراقيين بالطائرات طوعاً، ومن المستبعد أن تُغيّر المكالمات الهاتفية الأخيرة بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ولوكاشينكو موقف أوروبا العام تجاه بيلاروسيا أو تمنح لوكاشينكو التنازلات التي يصبو إليها. من المتوقع أن تفرض الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا قيوداً جديدة لزيادة عقوبات الاتحاد الأوروبي، وتشكيل جبهة موحّدة بين الدول الأوروبية والأطلسية رداً على الأزمة القائمة، فقد أعطت جولات العقوبات السابقة بعض التداعيات الاقتصادية (لا سيما العقوبات المرتبطة بقطاع صناعة البوتاس في بيلاروسيا)، لكنها فشلت في تغيير تصرفات لوكاشينكو، وفي الوقت نفسه، كان احتفاظ لوكاشينكو بالسلطة كفيلاً بدفع بيلاروسيا إلى أحضان موسكو، لذا يُفترض أن تتوخى الحكومات الغربية الحذر ولا تبالغ في تقدير آثار تلك التدابير على مستوى ردع أي استفزازات مستقبلية، لا سيما احتمال أن تستفيد روسيا في مجالات عدة. قد تتّضح الحاجة إلى توسيع العقوبات كي تتجاوز نظام لوكاشينكو بعد فهم حجم المساعدة التي قدّمتها موسكو لتأجيج أزمة المهاجرين، لكن من المستبعد أن يؤثر التمييز بين الطرفَين على نتائج الأزمة عموماً، لا سيما تعميق الاصطفاف بين روسيا وبيلاروسيا للتصدي للغرب والإمعان في إضعاف موقع لوكاشينكو أمام موسكو، فقد أصبحت سيطرة روسيا البطيئة على بيلاروسيا أمراً واقعاً اليوم.لكن لا تشمل هذه الرؤية المستقبلية لوكاشينكو بالضرورة، إذ يقال إن تصرفاته المتهورة أثارت استياء الكرملين، حتى أن اعتراض روسيا على أي عملية انتقالية ديموقراطية قد تُقرّب بيلاروسيا من الغرب، على غرار أوكرانيا، يعني أن لوكاشينكو يبقى الخيار الأقل سوءاً في مينسك حتى الآن، ومع ذلك، تبحث روسيا حتماً عن طرق أخرى لتجديد الاستقرار في بيلاروسيا عبر نقل السلطة بطريقة مدروسة إلى شخصية موالية للكرملين. قد تسمح عملية الإصلاح الدستوري الغامضة والمستمرة للوكاشينكو بتجاوز الأزمة السياسية التي سبّبها بنفسه، لكن قد يطلق لوكاشينكو أيضاً استفزازات جديدة إذا لاحظ أن العملية الانتقالية تطرح مخاطر عليه، لذا يجب أن تبقى الأوساط الأوروبية والأطلسية مستعدة لأي حالة طارئة.