تدرك د. تغريد القدسي أنها "امرأة تبكي بهدوء" لذلك عملت على توثيق تجربة قبل أن تخونها الذاكرة وعندها، فالتاريخ الشفهي لا يقل أهمية عن المدون. في كتابها الصادر حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، حاولت أن تترك زوجها شفيق الغبرا بعيداً عما ترويه لتبقى هذه الرواية خاصيتها دون تدخل منه.. التجربة سرد ذاتي بعيداً عن الأكاديمية وتوثيقها وإن استعانت بمهاراتها التعليمية حفاظاً على المصداقية.
الطفولة والدراسة
تبدأ بالفصل الأول من مسقط رأسها القدس، وتسير بك إلى الفصل الثاني عشر، في تسلسل زمني لسنوات العمر. هي أتت من عائلة فلسطينية تدعى "القدسي" لهم أملاك في مدينة الخليل، هاجر جدها، سيدي حامد، باتجاه الكويت منذ عقد الخمسينيات من القرن الماضي، لينتقل إلى العيش فيها أوائل الستينيات. وعت على الدنيا في طفولتها المبكرة عندما التحقت بمدارس الكويت الحكومية في عهدها الذهبي مع أسرتها، بعد أن استقروا في منطقة السالمية. كانت من جيل نشأ في كنف التعليم النظامي في بداياته، يوم كانت "التربية" تزود الطلبة بالملابس المدرسية والأحذية المناسبة لها، ولوازم القرطاسية والكتب. انتسبت إلى ثانوية الرميثية الجديدة أوائل سبعينيات القرن الماضي. في الأمكنة التي عاشت فيها طبعت في شخصيتها معالم أعطتها تنوعا في الثقافة، فجيلها كان مولعاً بالسياسة والطرب في آن واحد، خاصة الطرب الأصيل من عمالقة الفن العربي. فقدانها شهيدا من عائلة "آل القدسي" في إحدى المعارك، وهو شاب، زاد وعيها وإحساسها من "استهدافها كفلسطينية". في عام 1975 أصبحت عضوة هيئة تدريس في جامعة الكويت، وانضمت إلى قسم اللغة الإنكليزية، وفي السنة الثانية من دراستها الجامعية تعرّفت إلى زوجها شفيق الغبرا.انتقلت مع الغبرا إلى بيروت بعد الزواج عام 1977، لتشاركه العمل مع الفدائيين في جنوب لبنان، وبقيت هناك 4 سنوات. في بيروت، عملت في مكتبة مركز الأبحاث الفلسطينية، وكان قريباً من كلية بيروت الجامعية (LAU)، وهو ما مكّنها من ارتياد الفصول الدراسية في علوم المكتبات والمعلومات بالكلية. اتجهت مع زوجها إلى أميركا، بعد قرار تكملة الدراسة هناك، وترك مدينة بيروت، فقد كانت الكويت في تلك المرحلة محطة وسطية قبل الانتقال إلى بلاد العم سام، خصوصاً بعد حصول الغبرا على بعثة تعليمية من الحكومة الكويتية في أغسطس 1981.أنهى زوجها دراسة الماجستير في العلوم السياسية، وأنهت هي متطلبات الحصول على شهادة الليسانس من جامعة بوردو. قضيا في "أوستن" أجمل سنوات الدراسة والحياة، وفي صيف عام 1985 وبعد نيلها الماجستير جاءت إلى الكويت، وراحت تحضّر برنامج الدكتوراه، كما فعل زوجها الذي عاد أيضاً للتدريس في جامعة الكويت. سكنت في حرم جامعة الكويت بالشويخ مع زوجها، ثم سافرت إلى القاهرة عام 1987 لإجراء بحث ميداني لزوم الدكتوراه، وكانت الرسالة عبارة عن تحليل لمحتوى أدبيات الأطفال العربية الحديثة في القرن العشرين، وتقصّي آثار الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالفعل نالت الدكتوراه من جامعة أوستن الأميركية عام 1988، لتبدأ رحلة إنشاء أول برنامج ماجستير لتدريس علوم المكتبات والمعلومات في جامعة الكويت، تحت مظلة كلية الدراسات.أحداث الغزو 1990
تروي أحداث الغزو العراقي، قائلة: صبيحة الثاني من أغسطس 1990 عندما كانت وزوجها في شقتهما بالحرم الجامعي بالشويخ، قرّرا بعدها المجيء إلى ضاحية عبدالله السالم، حيث بيت والد زوجها، فقد "بتنا كويتيين وأصبحنا عراقيين"، كما تكتب وتتساءل.. كيف غدونا عراقيين وليس كويتيين فجأة بين ليلة وضحاها؟ فهي على حد تعبيرها "فنحن كويتيون فلسطينيون، أي الاثنان معاً". تشرح د. تغريد ما حدث معها أثناء الاحتلال العراقي، فقد كانت مع الأكاديميات الكويتيات اللواتي نظّمن صفوفهن لمقاومة المحتل، وتعرّضت كغيرها لحوادث على حواجز الطرق التي أقامها الجنود العراقيون، وكادت أحياناً تودي بحياتها، مما دفع زوجها إلى البحث عن طريق للخروج مع أبنائهم من الكويت. خياراتها بالمغادرة لامست حقيقتها الفلسطينية كما الكويتية، وهذا ما تكشفه عند تنقلاتها، يوم علمت أن الخروج سيكون بالطائرة عبر مطار بغداد، حيث مكثت هناك نحو أسبوعين مع "الدروع البشرية"، أي الرهائن الذين غادروا الكويت، ثم ما لبثت أن انتقلت عبر الطريق البرّي إلى الأردن.. وهناك "أحست بنقمة الأردن بأردنيتها وفلسطينيتها على مَن هو قادم من الكويت. وصلت بها الرحلة إلى مطار دالاس في فرجينيا، ثم تبعها زوجها بعد أن تدبّر عبر السفارة الكويتية أوراقا ثبوتية للتنقل، بدل التي فقدها أثناء الاحتلال.بعد التحرير عام 1991، ذهبت إلى القاهرة ومجموعة من زميلاتها لحضور مؤتمر إعادة الإعمار، وعادت إلى الكويت ثم إلى العاصمة واشنطن. تولت إنشاء برنامج الدراسات العليا "ماجستير" في المكتبات والمعلومات، بعدما ابتدأ التدريس خريف 1996 وخلال 3 سنوات كانت تنتقل بين الكويت وأميركا، ونالت إجازة تفرّغ علمي بجامعة ميريلاند الأميركية. في الفصل الأخير، من الكتاب وتحت عنوان "ما بعد"، أيقنت أنه بعد كل تلك السنوات ودروس الحياة التي دفعت ثمنها غاليا في فهمها، واعتبرتها "صفعات" كانت أشبه بدروس وعبر.. لكن الأسئلة بقيت تطاردها أينما حلّت وحقيقة "أننا كويتيون فلسطينيون، وبهذا إغناء لنا وليس انتقاصاً منّا".. الكتاب عبارة عن سردية فيها خصوصية الانتماء والجنس (بكونها امرأة) بعد أن لفت الحرب والصراعات حياتها، فانتقلت بمبادئها وقناعاتها عبر حلقة كاملة كانت تعتقد أنها عملية نضوج فكري لتظهر وكأنها عادت من حيث ابتدأت, امرأة "تبكي بهدوء" عملت على توثيق ما اختزنته الذاكرة قبل أن تشيخ .