الولايات المتحدة ومعضلة المهاجرين على الحدود
خاض الرئيس جو بايدن حملته الانتخابية بناءً على برنامج يدعم المهاجرين صراحةً، ويتناقض هذا التوجه مع نهج سلفه بالكامل، لكن سرعان ما تبيّن أن تنفيذ وعوده صعب المنال، فقد بلغت المعابر غير الشرعية على الحدود الأميركية المكسيكية مستوىً غير مسبوق منذ عام 2000، إذ يتدفق المهاجرون اليوم من دول إضافية مقارنةً بالماضي، ولا شك أن انتخاب بايدن شجّع المزيد من المهاجرين على خوض هذه المغامرة، لكن أصبحت الظروف القائمة في الدول التي يغادرها هؤلاء المهاجرون دافعاً قوياً للرحيل أيضاً، وقد أدت أزمة كورونا إلى استنزاف اقتصادات أميركا اللاتينية، وضربت العاصفتان الاستوائيتان «إيتا» و«إيوتا» غواتيمالا وهندوراس والسلفادور في أواخر السنة الماضية، مما أدى إلى تشرّد مئات آلاف السكان أو حرمانهم من المياه الجارية، وفي الوقت نفسه، تستفحل أعمال العنف في هذه المنطقة.تعهد بايدن بمعاملة الوافدين بطريقة إنسانية، لكنه لا يملك أدوات كثيرة لتنفيذ هذا الوعد، فبقيت السياسات الحدودية الأساسية التي أقرّتها إدارة ترامب على حالها بقرارٍ من المحاكم، ولا تحظى إصلاحات الهجرة التي يقترحها بايدن بدعم كافٍ في الكونغرس، ففي غضون ذلك، يتوق الجمهوريون إلى المجاهرة بأن بايدن سمح بنشر الفوضى على الحدود قبيل الانتخابات النصفية في عام 2022، وتُعتبر الهجرة أصلاً من أبرز المسائل التي أدت إلى تراجع نسبة تأييده، وربما تعهد بايدن بتطبيق مقاربة مختلفة عن الإدارة الأميركية السابقة، لكنه مضطر للجوء إلى تدابير مألوفة للتعامل مع تدفق المهاجرين والفوضى السائدة على الحدود، أبرزها إنفاذ القوانين والدبلوماسية.يطلب معظم المهاجرين اللجوء لأنها الطريقة الوحيدة التي تسمح للمهاجر بالدخول إلى الولايات المتحدة بطريقة قانونية إذا لم يكفله فرد من عائلته أو رب العمل، لكن لا ينطبق قانون اللجوء إلا على فئة ضيقة من الأفراد، وهم الهاربون من الاضطهاد لواحد من خمسة أسباب معترف بها: الانتماء العرقي، الدين، الأصل الوطني، الرأي السياسي، الانتساب إلى جماعة اجتماعية معينة، وفي المقابل لا يُعتبر المهاجرون الفقراء مؤهلين إذا كانوا يسعون إلى تحسين حياتهم بكل بساطة، مع أنهم قد يواجهون في الوقت نفسه العنف والفساد وسوء المعاملة من حكومة بلدهم.
أدى ارتفاع عدد طالبي اللجوء إلى زيادة أعباء المحاكم الأميركية التي تُعنى بملفات الهجرة وتُصدِر الأحكام في هذا النوع من القضايا، فاليوم، يبلغ عدد القضايا مستوىً تاريخياً (1.46 مليون) ويرتبط نصفها تقريباً بطلبات اللجوء، ويعني ذلك الاضطرار لانتظار سنوات طويلة قبل انتهاء كل قضية، ويؤدي هذا التأخير كله إلى تأجيل البت بمصير طالبي اللجوء المؤهلين، وتشجيع من يفتقرون إلى المؤهلات اللازمة على تقديم طلب لجوء والاستقرار في الولايات المتحدة لسنوات فيما تبقى طلباتهم عالقة. هذا الوضع يُضعِف القدرة على تنفيذ الالتزامات القانونية المحلية والدولية بحق الهاربين من الاضطهاد ويمنع فرض النظام على الحدود.
التخلي عن الإجراءات السابقة لن يكون سهلاً!
علّق بايدن «بروتوكولات حماية المهاجرين» منذ أول يوم له في السلطة، لكن داعمي هذا البرنامج دعوا إلى استئناف العمل به في المحاكم، ثم أصدرت المحكمة العليا في أغسطس الماضي حُكماً لمصلحتهم، فأعلن وزير الأمن الداخلي الأميركي، أليخاندرو مايوركاس، في أكتوبر الماضي أن الإدارة الأميركية ستحاول وقف العمل بهذا البرنامج مجدداً، لكنه لا يزال على حاله حتى الآن على الأقل، كذلك تتابع الإدارة استعمال المادة 42 التي ترفض استقبال حوالي 60% من القادمين عبر المعابر الحدودية بحجة المخاطر المرتبطة بأزمة كورونا.في الفترة الأخيرة، اتخذت الإدارة الأميركية خطوة واعدة أيضاً لإصلاح نظام اللجوء، فاقترحت إبعاد الإجراءات الأولية لطلبات اللجوء عن محاكم الهجرة المثقلة بالأعباء وإحالتها إلى ضباط اللجوء في الخدمات الأميركية الخاصة بالمواطنة والهجرة. هذا الطرح المبتكر قد يزيد فاعلية الإجراءات ويجعلها أكثر إنصافاً لأن ضباط اللجوء هم أكثر اطلاعاً على ظروف البلد وستكون التدابير التي يتخذونها غير عدائية، مما يعني أنها أكثر تماشياً مع مزاعم الحماية المطروحة. حين تصبح هذه التعديلات سارية المفعول (في بداية عام 2022 على الأرجح)، قد تسمح لطالبي اللجوء الشرعيين بإنهاء معاملاتهم خلال أشهر، لا سنوات، كما أنها ستضمن ترحيل غير المؤهلين إلى أوطانهم وحصولهم على الدعم اللازم في بلدهم الأم قبل الاستقرار في الولايات المتحدة.لكن حتى لو نجحت تعديلات اللجوء في تحقيق أهدافها، فإنها تعجز عن التعامل مع عدد كبير من الوافدين اليوم، وبشكل عام، لا يحمل معظم الوافدين المؤهلات الكافية لطلب اللجوء، لكن تكمن المفارقة في وجود طلب كافٍ في قطاعات معينة من سوق العمل الأميركي، إذ يستطيع عدد كبير من هؤلاء الوافدين أن يشغلوا وظائف مؤقتة أو دائمة، وبعد تمرير قانون البنية التحتية، من المتوقع أن يرتفع الطلب بدرجة إضافية، لكنّ فتح مسارات جديدة لمنح تأشيرة قانونية أو توسيع المسارات القائمة ليس من صلاحية السلطة التنفيذية، ووحده الكونغرس يستطيع اتخاذ هذه الخطوة ومن المستبعد أن يفعل ذلك في أي وقت قريب.يشير هذا الوضع إلى زيادة اتكال إدارة بايدن على الدول في نصف الكرة الأرضية لمساعدتها على كبح تدفق المهاجرين إلى الولايات المتحدة، حيث تتطلب هذه العملية أن تبذل واشنطن جهوداً دبلوماسية رفيعة المستوى وتبرم اتفاقيات واسعة بين الدول قد تشمل الخصوم أحياناً، وتبرز أمثلة سابقة على هذا النوع من الدبلوماسية، فحين انطلق مهاجرون من هايتي وكوبا في رحلات خطيرة بالقوارب نحو الولايات المتحدة في فترة التسعينيات، تابع الرئيس بيل كلينتون تطبيق سياسة سلفه التي تأمر خفر السواحل الأميركي باعتراض قواربهم وإنشاء ملجأ آمن في خليج غوانتنامو للتدقيق بملفات اللاجئين، كذلك أطلقت الحكومة الأميركية عمليات داخلية لتسوية معاملات اللاجئين في هايتي وكوبا، وحددت عدداً سنوياً من طلبات الهجرة القانونية من كوبا عبر تسوية تم التفاوض عليها. في أوروبا، أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقاً مع تركيا ودفع مليارات اليورو في عام 2016 لتشجيع أنقرة على منع المهاجرين من الوصول إلى اليونان، حيث فضّل الاتحاد الأوروبي هذه المقاربة بعد وصول أكثر من مليون لاجئ سوري وأفغاني وعراقي وسواهم إلى أوروبا في السنة السابقة، مما أدى إلى زعزعة الحكومات في أنحاء القارة.ستتكل إدارة بايدن على المكسيك بشكلٍ أساسي، لكن بلداناً أخرى في هذه المنطقة بدأت تطرح نفسها كدول تحمل مواصفات الهجرة الثلاثة: دول المنشأ، دول العبور، الوجهة النهائية. أدت حملات القمع والمشاكل الاقتصادية والكوارث الطبيعية التي اجتاحت فنزويلا وهايتي ونيكاراغوا، فضلاً عن توافد الكوبيين إليها على مر عقود عدة، إلى تدفق المهاجرين نحو البرازيل وكولومبيا وبَنَما وكوستاريكا، لكن يبدو أن ارتفاع مستوى العدائية تجاه هؤلاء المهاجرين واستفحال الوباء في بلدانهم وفي الدول المضيفة سيؤديان إلى ظهور ديناميات جديدة للهجرة قد تطرح تهديدات خطيرة على استقرار المنطقة ككل.هذه الوقائع الجديدة تستدعي التوصل إلى حلول مبنية على تقاسم المسؤوليات، وهذا ما اقترحه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال رحلته الأخيرة إلى أميركا الجنوبية، فقد تعتبر الولايات المتحدة تقديم الدعم النقدي أساسياً كي تتمكن تلك الدول من استضافة جزء من هؤلاء المهاجرين وتمنعهم من التوجه إلى الولايات المتحدة، لكن بالإضافة إلى معالجة أسباب المشكلة الأصلية، يجب أن تحاول الحكومات ابتكار أنظمة شاملة لإدارة حركة الهجرة في جميع أنحاء المنطقة، وتتطلب هذه المقاربة التعاون لطرح سياسات وأنظمة مرتبطة بإجراءات منح التأشيرات، وتطوير قدرات لحماية اللاجئين وتسوية طلبات اللجوء، ووضع برامج دورية للهجرة، وتحديد مسارات قانونية للهجرة بناءً على سوق العمل وإجراءات التوظيف، وتدريب الفِرَق للسيطرة على الحدود وحركة الهجرة، وابتكار تكنولوجيا لتسهيل تنقل الناس والسلع بطريقة قانونية، وعقد اتفاقيات لإعادة المهاجرين غير المؤهلين، وتقاسم المعلومات الاستخبارية والتعاون لإنفاذ القوانين المعمول بها، لا سيما تلك المرتبطة بالتهريب والاتجار بالبشر.يُفترض أن تبدأ هذه المبادرات المعقدة وطويلة الأمد محلياً وتترافق مع تعديلات ضرورية لقوانين الهجرة الأميركية كي تنجح في التوفيق بين فرص الهجرة والحاجات الاقتصادية المستقبلية والنزعات الديمغرافية السائدة، لكن أثبتت هذه الإصلاحات أنها صعبة التنفيذ سياسياً منذ أكثر من عشرين سنة، فعجزت إدارة بايدن عن إحراز أي تقدّم حقيقي، مع أن الحزب الديموقراطي يملك الأغلبية في مجلسَي الكونغرس، ولا يمكن أن تنجح مساعي منع تدفق المهاجرين بوتيرة متزايدة وفوضوية إلا بعد اتخاذ خطوات واضحة والقيام بالتزامات متعددة الأطراف، وتُعتبر حركات الهجرة والتنقل جزءاً أساسياً من المجتمعات الصحية والمزدهرة، لكنها لن تكون كذلك إلا إذا أصبحت هذه القرارات اختيارية بالنسبة إلى الدول المضيفة والمهاجرين بحد ذاتهم بدل أن تعكس يأساً شاملاً من الوضع، ولا يسهل تصميم استراتيجيات فاعلة لجعل حركة الهجرة آمنة وقانونية ومنظّمة، لكن لا بد من وضع سياسة خارجية محددة لتوجيه العلاقات بين دول المنطقة في المرحلة المقبلة.