أزمة بولندا المزدوجة
أشرف "حزب العدالة والقانون" الحاكم في بولندا على تفكيك السلك القضائي المستقل في هذا البلد الواقع في أوروبا الوسطى، واستهدف حقوق المثليين والسحاقيات، وأضعف حق المرأة باتخاذ قراراتها حول الإنجاب والإجهاض، وجرّد وسائل الإعلام من قوتها، وهذا التراجع الديموقراطي دق ناقوس الخطر في بروكسل بعد تدهور العلاقات بين الطرفَين في أكتوبر، حين أصدرت المحكمة الدستورية في بولندا حُكماً يعتبر بعض قوانين الاتحاد الأوروبي غير متماشية مع دستور البلد.أمام هذا التحدي الذي يُهدد نظام الاتحاد الأوروبي الأساسي، كان رد بروكسل فاتراً، فاكتفت بتعليق تمويل حزمة التعافي من وباء كورونا التي تصل قيمتها إلى 41.2 مليار دولار، وفي المقابل أبدت بولندا استعدادها للقتال، فقال رئيس الوزراء البولندي، ماتيوز مورافيكي، إن العقوبات المالية تدخل في خانة "الابتزاز"، وهدّد وزير بولندي آخر بإضعاف تشريع المناخ الأساسي في الاتحاد الأوروبي.للتعامل مع الأزمة القائمة في الغرب، حوّلت بولندا أنظارها شرقاً، فحين نظّم رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، أزمة الهجرة على حدود بولندا الشرقية رداً على عقوبات الاتحاد الأوروبي، اتخذ "حزب العدالة والقانون" موقفاً متشدداً من ملف الهجرة. بين شهرَي سبتمبر ونوفمبر، فرضت الحكومة البولندية حالة طوارئ على بُعد ميلَين من حدودها مع بيلاروسيا، وفي هذه المنطقة الرمادية، تنشط شرطة الحدود البولندية بعيداً عن أنظار منظمات الإغاثة الدولية أو الصحافيين، إذ يحاول المهاجرون العبور نحو بولندا من بيلاروسيا لكنهم لا ينجحون، بما يتعارض مع قواعد اللجوء الدولية.
إذا أراد "حزب العدالة والقانون" استعمال المسألة الحدودية لتحويل الأنظار عن أزمة حُكم القانون عبر استغلال خوف بروكسل من موجات الهجرة العشوائية، يمكن القول إنه نجح بدرجة معينة، فخلال جولة مورافيكي الأخيرة في العواصم الأوروبية، لم تتمحور النقاشات حول تهديد حُكم القانون بل المخاطر المطروحة على الغرب من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو داعم شرس للوكاشينكو.يقول بيوتر بوراس، مسؤول سياسي بارز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "أظن أن مورافيكي يريد توجيه رسالة مفادها أن هذه المسألة هي الأخطر، ولا أهمية للمسائل الأخرى، وتبدو العلاقة بين أزمة حُكم القانون في بولندا وأزمتها الحدودية أضعف مما يوحي به حزب العدالة والقانون... ربما يرغب الاتحاد الأوروبي في إثبات تضامنه في مسألة الحدود للحفاظ على صرامته في مجال حُكم القانون، لكن تبقى العلاقة بين المسألتَين شائكة لأن الاتحاد الأوروبي يقول إنه يواجه مشكلة مع حُكم القانون في بولندا لكنه يلتزم الصمت حول انتهاك حُكم القانون على الحدود البولندية. إنه موقف غير متماسك".هذه المقاربة "الناعمة" مع الدول الأعضاء الفاسدة دفعت البرلمان الأوروبي إلى إطلاق إجراء قانوني ضد المفوضية لأنها فشلت في طرح آلية جديدة لحُكم القانون كان يُفترض أن يسري مفعولها في بداية السنة. تقول صوفي إينت فيلد، نائبة هولندية في البرلمان الأوروبي: "يبدو أن هذه المفوضية الأوروبية تحديداً تنسى أهمية الحفاظ على استقلاليتها، فهي تتصرف وكأنها وزارة في خدمة حكومات الدول الأعضاء، وهذا الوضع يطرح مشكلة، إذ تحاول بولندا والمجر تجنب عواقب تصرفاتهما، في حين تسعى المفوضية إلى التملص من مسؤولياتها والخروج من وضع محرج".أرسلت المفوضية الأوروبية حديثاً رسالة إلى الحكومة البولندية تتساءل فيها عن انتهاكات قانون الاتحاد الأوروبي. إنها خطوة أولى تمهيداً لتفعيل آلية حُكم القانون، كما تلقّت المجر رسالة خاصة بها أيضاً، لكنّ هذه الخطوة لم تنجح في إرضاء النقاد.قبل أيام أصدرت المحكمة الدستورية في بولندا حُكماً مفاده أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لا تملك صلاحية التدخل لتعيين القضاة في البلد، ومن المنتظر أن يقرأ مجلس النواب البولندي مسودة قانون لفرض حظر كامل على أحكام الإجهاض والسجن بحق من يطبقون هذه الممارسات أو يسهّلون تنفيذها، إنه مؤشر آخر على ابتعاد البلد عن قيم الاتحاد الأوروبي الأساسية.تتطرق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى مسائل الديموقراطية منذ وصولها إلى السلطة، وكانت تتوق إلى الحفاظ على ولاء بولندا، فالتقى بايدن والرئيس البولندي أندجي دودا على هامش قمة حلف الناتو في شهر يونيو الماضي، ثم أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنها تقدّر حس القيادة الذي تحلّت به بولندا وليتوانيا ولاتفيا غداة الأزمات الحدودية مع بيلاروسيا.مع ذلك، تَرِد بولندا على قائمة المدعوين لحضور قمة الديموقراطية التي ينظّمها بايدن في الأسبوع المقبل، ويهدف هذا الحدث في الأساس إلى "تقديم منصة للقادة كي يعلنوا التزامات وإصلاحات ومبادرات فردية وجماعية للدفاع عن الديموقراطية وحقوق الإنسان محلياً وخارجياً".* «أماندا كوكلي»