"كما دولاب أعمار البشر الدائر من دون توقّف أو التفاتٍ لأحد، فالقراءة نهر فكرٍ لا يتوقف عن الجريان... أبدًا هو متجدد، وأبدًا ملوّن بألوان اللحظة وأفكارها الجديدة وإصداراتها، ودائمًا يأتي بأحلام المجانين الذين صنعوا تاريخ البشرية برؤاهم المستقبلية التي طالما سبقت أزمانهم. فجّر دوستويفسكي الدهشة في قلبي، واستولى فوكنر على إعجابي بجنون، وإلّا كيف له أن يستنطق وعي الإنسان ويتكلم بلسانه؟! وحينها لم أكن أعلم أنني سأحمل دوستويفسكي وفرويد وفوكنر في مركبي، وأظل مبحراً معهم ولحين يأتي الراكب الرابع والأخير، عالم الفيزياء والرسام الأرجنتيني الساحر إرنستو ساباتو-Ernesto Sabato، الذي فجّر الدهشة في فكري يوم قرأت روايته الآسرة "ملاك الجحيم... أبدون"، فكيف لمؤلف أن يكون شخصية من شخصيات روايات؟!
طوال رحلة الصبي طالب الذي غدا شابًا، كانت الكتب العربية في الشعر والقصة والرواية والمسرح تملأ قاربه، وتغذّيها صداقته بالروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل، والكاتبة ليلى العثمان.ومرات كثيرة رسا بقارب قراءاته على ضفة الحكّاءة شهرزاد، وكم استضافته في غفلة من زوجها الملك شهريار ليستمع إلى حكاياها. ويُخايل فكره أنه جالس البصراوي الجاحظ، وملياً تتّبع ذلك المغرور المتنبي، وفي مقهى فندق الشام جلس مع شاعر تفاصيل الإنسان والحياة محمد الماغوط، ولحين وصل إلى أول ميناء للنشر، يوم نشر أول قصة قصيرة له بعنوان "إن شاء الله سليمة" في جريدة الوطن الكويتية بتاريخ 17 يناير 1978، يومها رفع الفتى رأسه ينظر إلى ساحة الضفة الأقرب، حينها كان طالبًا يدرس في كلية الهندسة والبترول بجامعة الكويت، فإذا بحيوات وبشر ونشر وجرائد ومجاميع قصصية وروايات وشعر وصخب عال وعراك ودسائس وأحقاد تضّج بالضفة. منذ يومها أيقن الطالب ذاته، أن القراءة مأمن وأن الكتابة مغامرة مفتوحة على المخاطرة من كل الجهات! عشق الشاب القصص الساحرة لذلك الطبيب يوسف إدريس، وهام بفانتازيا قصص صديقه حتى اليوم زكريا تامر، وتاليًا صديقه المغربي أحمد بوزفور، ومنذ نشرَ قصته الأولى، نذر نفسه لأن يكتب عن وطنه الكويت بلحظاته التي يعيش، وعن قضاياه، وأحلام من يسكن أرضه عرباً وأجانب، وأن يكون صوتًا لمن لا صوت له.لكن، ولأنّ نهر الحياة يظل جاريًا من تحت قنطرة يومنا، فإن بياضًا غزيرًا مسَّ شعر رأسه، وتغيّرت ملامح وجهه، وحركة أصابعه على لوحة الكمبيوتر، ونظارته الطبية... فجأة تنبّه ذلك الصبي إلى أنه قد جاوز الستين، بالرغم من شعوره بأنه ما زال صبيًّا يركب قاربه! تنبّه إلى ابتسامة زوجته وهي تقول له: "سنكبر معاً"، قبل أن تستدرك بابتسامتها: "أنا لا أريد أن أكبر!" يضحكان معًا متذكرَين أحفادهما... بينما تردد ابنته الأكبر فرح: "لا أريد لكَ أن تكبر! وسأبقى أنظر إليك كما أنت في قلبي!"، وتخاطبه ابنته الثانية فادية: "بابا، لماذا تتصرف كعجوز؟!" وكم تدفع به إلى أن يتشبب!موحشةٌ هي ضفة الكتابة، وساحرةٌ هي القراءة كمياه نهر جارية! وكم وكم عصفت بقارب الرفاعي العواصف، وخاض منحدرات بأمواج مجنونة، ونعقت من خلفه الغربان والبوم والدسائس والنميمة، لكنّه ظل البحّار العنيد، الذي لا ينأى يرفع شراع قاربه، مُبحرًا بعزيمة عشقه لوطنه، ومنذوراً لعطاء متجدد، في الكتابة وفي الثقافة والمثاقفة، وأبداً يبقى باحثاً عن جزائر الفتنة والدهشة ومغامرة الكتابة، متجاهلًا عن عمدٍ كل لغوٍ يثار على الضفاف وكل دخان أسود. بحّار كلمةٍ كنتُ وسأبقى، في قارب القراءة الأجمل والكتابة الأصعب، بحّار وحولي قوارب أصدقاء كثر مخلصين تطمئن روحي لوصلي الدائم بهم، وتهنأ عيناي لرؤيتهم.أمنّي النفس في كل يوم وكل لحظة بأن أرسو قرب ميناء أجمل، بمغامرة كتابة جديدة. وأبدًا سأبقى أشدُّ شراع قاربي الصغير بقراءاتي، فالإبحار غدا حياتي وبه أحيا".• محاضرة قدّمتها بمعرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الأربعين، بمناسبة اختياري شخصية العام الثقافية.
توابل
أنهار القراءة وضفاف الكتابة (2 – 2)
06-12-2021