يسكنون بيوتاً متشابهة ومتقاربة، وإذا لم تتوافر في تلك المدينة يرحلون إلى الأطراف ويبنون منتجعات خاصة بهم، بأسوار عالية وبوابات فخمة وحرس يقف عازلاً بينهم وبين كل الآخرين أينما كانوا، وإذا كثروا زحف بعضهم حتى لو كان من الفصيل نفسه أو الطبقة أو الطائفة الجديدة، التي تعتمد بمجملها على الأصفار بعد الأرقام في حسابات بنوكهم أو بنوك سويسرا، أو حتى بعض البلدان الأخرى التي تخصصت في أن تكون "ملاذاً" آمناً لمثلهم.. إما للهرب من الضرائب أو للهرب من الأعين أو بعيداً عن أية رقابة كانت لا خوفا من الحسد طبعا. ليست بيوتهم التي تتشابه فقط أو ربما تتنافس فيما بينها، بل أيضا ملابسهم وهندامهم وعرباتهم وأحذيتهم وساعاتهم ومجوهراتهم النسائية منها والرجالية، نعم هناك مجوهرات للرجال من هذه الشريحة أو الطبقة، بل ربما هي طائفة أو قبيلة جديدة بعد البيوت والسيارات والملابس و"الكمبوندز" بأسوارها العالية، بل أحيانا ينتقلون جميعا إلى مدن لهم هم فقط، حتى العاملون في خدمتهم لا يستطيعون أن يسكنوها، بل أن يحاولوا أن يبنوا أعشاشهم قريباً عن هذه المدن الراقية، ولكن بما يكفي لعدم تخلفهم عن الحضور في مواعيد عملهم ليكونوا في خدمة هذه الطبقة أو في مدن أخرى أن يسكن العاملون في مرافق خلف الفلل الفخمة والقصور وحمامات السباحة، يراقبون سكان هذه البيوت الفارهة بكثير من الاستغراب والحسد أيضا، ويتسألون فقط: هل هم حقا "بني آدمين مثلنا؟"
يحق للأثرياء الجدد أو محدثي النعمة أو "النوفوريش" أن يفعلوا ما يحلو لهم من حياة مرفهة، ويحق لهم أيضاً أن يعزلوا أنفسهم عن العامة، وربما يحق لهم ألا يخالطوهم ويعزلوا أنفسهم بشكل كامل عنهم إلا فيما ندر، فبعضهم لا يزال "يخاف ربنا" أو هكذا يقول، فيتصدق عليهم بما فاض من ملابس مستعملة أو بقايا طعام!! زكاة هي أو كفارة أو مشاركة للمساكين الفقراء الذين أصبحوا أغلبية شعوبنا، ففي بعض دول المنطقة هناك أكثر من 80% من السكان ممن هم بحاجة إلى دعم أو معونة، وهذا بعد أن اختفت الطبقة الوسطى أو تآكلت أو خنقت بفعل أقلية تتحكم في شرايين الحياة الاقتصادية كلها، هم أقلية نعم، يملكون كل الثروات ويتحكمون في رفع الأسعار وزيادة الوقود وقطعه أحيانا أو تقليصه حتى يكون لهم هم فقط، فكيف سيبردون قصورهم صيفا ويدفئونها شتاء؟ وكيف يحولون أحواض السباحة إلى صيفية وشتوية؟كل ذلك ابتلعه المواطن العادي أو عامة الناس وهم كثر، بل كثيرون من العامة صدقوا عبارة "هذا من فضل ربي" التي تزين مداخل المحلات الفخمة والبيوت بل القصور، فلم يعد المواطن يملك إلا أن يكون متفرجاً في بلده، يراقب ما يلبس هؤلاء، وكيف يحتفلون، وأين يتعشون، وفي أي المطاعم يتجمعون أو الأندية الليلة. وهم في ذلك كما كان "الخدم" في العصور القديمة عندما يسرقون النظر من خلف زجاج النوافذ أو الأبواب الموصدة، وفي كثير من الأحيان لا يعرفون ما يقال وما يحدث، بل ما يأكل وما يشرب.. كلها طلاسم كانت ولكنها الآن وبفعل وسائل التواصل الاجتماعي وبفعل الرغبة الجارفة للأثرياء في أن يكونوا هم محط "الترند" أو الحديث رغم أنهم ينزعجون عندما يعلق أحدهم على تصرفاتهم وحياتهم الخاصة جداً! وبذلك ينشرون أمراضهم بين العامة، وقد يسميها البعض ثقافة، أي أنهم يعملون على نشر المعرفة والثقافة "للجهلة" من المواطنين الآخرين، وهنا يسقطون المجتمع بأكمله إلى شكل من أشكال البحث عما يشبه فستان تلك الفتاة أو المرأة أو سيارة ذاك الثري أو مجوهرات "بنات" تلك الطبقة الجديدة جداً. حتى هنا يبدو الأمر ليس بيد أحد، وكل الحق على وسائل التواصل، وربما على فضول العامة من الناس، ورغبتهم في معرفة أخبار أولئك الخلق الذين يسكنون خلف الجدران العالية، ويمرون بعرباتهم الفاخرة من أمامهم، وكأنهم غير موجودين أصلا.. كل ذلك ربما يقال طبيعي ضمن تطور الزمن والطفرة في وسائل التواصل والرغبة في المشاركة والتنافس "الشريف"! ولكن ماذا عن قيام أفراد تلك الطبقة بتلقين العامة دروسا في معنى الفن؟ وما هية الموسيقى؟ والآداب العامة والحريات بمعنى أن الفرد حر فيما يفعل دون معايير معينة لطالما حافظة، ولسنين طويلة، التراث البشري من الموسيقى إلى الغناء والرقص وحتى فن الترفيه والرسم والنحت وغيرها. كيف يتصور بعض الأثرياء منهم أن قدرته المالية التي تمكنه من شراءما يشاء وسفره المستمر إلى بقاع الأرض الواسعة، كل ذلك يجعله أكثر معرفة وفهماً للثقافة والفن؟ أو أنه يملك الجرأة ليقول للعامة من الناس إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة بحاجة إلى تضحيات منا جميعاً، وهو يقصد بذلك ضحوا أنتم وسنستمر نحن في جمع الثروات والعيش المرفه في حين أنتم تنبشون صفائح القمامة للبحث عن بقايا قطعة لحمة أو رغيف خبز. ربما على الأثرياء والمحدثين الجدد أن يبقوا خلف أسوارهم ويتوقفوا عن استفزاز العامة عبر بضعة أمور في غاية البساطة، أولها التوقف عن إعطاء النصائح الاقتصادية بالقول "شدوا الأحزمة"، لا أن يقولوا للعامة إن الثقافة هي نحن، وعليكم أنتم أن تراقبوها من خلف شاشات التلفزة أو عبر "إنستغرام" و"فيسبوك" وغيرهما، كما أن على الأثرياء الجدد أن يتوقفوا عن نشر صورهم وهم في يخوتهم الفخمة أو قصورهم أو في المطاعم الفاخرة التي يعادل سعر وجبتها مرتب أكبر الموظفين لسنة، وألا يشاركوا العامة في مهرجاناتهم لطالما هي حكرٌ عليهم وتقام بمقاييسهم هم، إلا إذا كان كل ذلك لا قيمة له دون متفرجين، وهنا يأتي دور العامة من الناس ليكونوا شريحة المتفرجين الذين يضعون "لايكا" وإعجاباً ونجوماً وأقماراً، فهم بذلك يزيدون تمادي أفراد تلك الطبقة أو الشريحة في استفزاز العامة لأن بعضها ارتضى أن يبقى طول حياته متفرجاً ومفعولاً به ومقلداً لأولئك الذين قد يكونون أحد أسباب فقره وجهل أطفاله وبقاء عائلته في دائرة الفقر نفسها جيلاً بعد جيل بعد جيل. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
دليل الثري لعدم استفزاز العامة *
06-12-2021