مختار المعارضة وثورها والجرة المكسورة
مع اقتراب التشكيل الحكومي الجديد وانعقاد أولى جلسات مجلس الأمة بعده، خرجت أصوات من بعض أطياف المعارضة تحمل تصورات محددة حول ما يجب القيام به في الجلسة الأولى، فريق يرى مقاطعة القسم وفريق ثان يرى إعادة التموضع على كراسي الحكومة لتعطيل الجلسة، وفريق ثالث يرى الاستجواب لرئيس الحكومة الجديد، وطرح قانون العفو الشامل كمعيار لمعرفة تماهي الحكومة الجديدة مع خطوط حمراء لم تقبلها الحكومات السابقة.وكل الطرق السابقة تتفق في العنوان وإن اختلفت في التفاصيل، فهي تحاول إعادة تدوير أساليب سابقة جربت من قبل ولم تنجح، وتستهدف أيضا نزع الشرعية من رئيسي السلطتين في المجلس، وفق شعار رحيل الرئيسين، كما أنها تخدم صورة النواب ذاتها أمام الشارع أو جمهورهما الخاص الذي لا يقبل أقل من ذلك، وإلا اعتبر النائب منشقا زنديقا متحالفا مع التيار الجديد الذي رسمت خطوطه مجريات الحوار الوطني، وقد شهدنا ذلك مع نواب الحوار، وأيضاً مع من أيدهم من جماهير المعارضة، حيث وسموا بالخيانة والتحالف مع الفساد وغير ذلك من أوصاف "الجنك فود" التي تحفل بها مائدة الهمز واللمز، ويجد بها صاحبها من يسد نهمه بدون أن يستفيد كبد حقيقته شيئاً!الطرق الثلاثة أعلاه كلها لا تؤدي إلى روما ولا لقلعة وادرين، بل ستجمد الوضع فقط على درجة تحت الصفر والتي شكلت طقس دور الانعقاد الفائت حتى يحلها حلال، والحلال هنا هو المادة ١٠٧ من الدستور التي تعني حل المجلس، هذا هو الهدف الأول لجزء من المعارضة الحالية، ولا تريد سواه، وإن صاغت مطالبها خلف شعارات ومطالب أخرى، وإن رجعنا للسيناريوهات المطروحة فسنجد أن مقاطعة القسم وإن كان من حق أصحابها لكنها وفق الشكل لما بعد الحوار الوطني لن تضر سوى صورة المعارضة، فخروج نواب يعدون على أصابع اليد الواحدة بأحسن الأحوال سيكشف انقسام المعارضة على الهواء مباشرة وذوبان رقمها الثلاثيني أمام كاميرات الإعلام، في الوقت الذي تحتم به الأحداث القادمة وحدتها واتفاقها بدلا من تشرذمها، أما الجلوس على الكراسي فسيوفر كم صورة وكم تغريدة تخدم النواب في حملاتهم الانتخابية القادمة ويتوافر أيضاً "فشة خلق" لجمهورها تخدمهم في هاشتقاتها، ولكنها لن تؤدي لشيء آخر غير ذلك، بل ستضر المواطن الذي ينتظر انعقاد الجلسات كي يشهد انفراجا في ملفات تخصه، وكلنا نعرفها، والمضحك في الأمر أن هذا الأسلوب انقلب على النواب أنفسهم وصارت الحكومة تستخدمه كلما أرادت تعطيل الجلسات، أما الجلسات التي تريد انعقادها فستنعقد حتى لو جلست على الأرض أو على سور المجلس، وسيهرول النواب الجالسون المتربعون لاحقا لطلب جلسات خاصة، ليحفظوا ماء وجوههم، الطريق الثالث أو الاستجواب لرئيس الوزراء وطرح العفو الشامل هو حق دستوري لا نحرم مقدميه من شرعيته، وأتمنى من الحكومة عدم الاعتراض عليه وتركه يأخذ مساره الدستوري، كي ننتهي من هذه الورقة، وستنتهي حتما وفق قواعد مرحلة ما بعد الحوار حتى لو لم يفهم مقدموها ذلك، على الحكومة ألا تخاف وتتركهم يرمون آخر أوراقهم في نار الواقعية السياسية لنتفرغ لما هو قادم، ونترك رماد التجارب البرلمانية منذ ٢٠١٣ وراءنا، ونتكيف مع التجربة الجديدة التي بدأت مع إنارة مشعل الحوار الوطني مسيرته.
يُحكى أن ثوراً حاول أن يشرب من جرة فخارية؛ فحشر رأسه فيها فاجتمعت القرية حول الحاشر والمحشور واختلفت في حل المشكلة، فقال أصحاب الثور: اكسروا الجرة، ولا تفرطوا بثوركم، فعارض هذا أصحاب الجرة، وقالوا: بل اقطعوا رأس الثور، ولا تفرطوا بجرتنا؛ وارتفع الصياح والنياح وصارت الفتنة! وبعد مناوشات ومهاترات طلب أهل القرية من مختارهم حل هذه المشكلة والفصل بين أصحاب الثور وأصحاب الجرة فوقف المختار برهة وتنحنح وأمسك لحيته، ثم قال: بسيطة، اقطعوا رأس الثور؛ فقطعوه، ففرح أصحاب الجرة وحزن أصحاب الثور، ثم قال لهم بعدها: الآن اكسروا الجرة، وأخرجوا رأس الثور بسلام! فبكى أصحاب الجرة وفرح أصحاب الثور. معارضتنا الموقرة وجمهورها الحبيب في معادلة العمل السياسي من هو الثور الذي يخسر رأسه في كل جرة؟ وما الجرة التي كسرت بدون ذنب؟ ومن مختار حلول مشاكلكم؟ ومن سيبكي منكم ومن سيفرح؟ كل هذه الأجوبة نعرفها جيداً، وتغاضينا عنها رغم أننا كلنا عيال قرية ويعرف كل منا أخاه!