تلقى رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي اتصالاً هاتفياً مشتركاً من كل من ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي أثناء زيارة الأخير للمملكة العربية السعودية، مما أعاد الأمل في عودة العلاقات الخليجية-اللبنانية الى سابق عهدها، الأمر الذي تحكمه عدة عناصر لم تتوضّح صورتها بشكل نهائي وجليّ. فالأزمة المستجدة بين دول الخليج ولبنان الرسمي هي في حقيقة توصيفها مثار جدل بين وجهتي نظر يرى الأكثر تفاؤلاً منها أن المقاطعة الخليجية، رغم حدتها وقساوتها على الشعب اللبناني، لا تعدو أن تكون مجرد عتب مغلّظ بين أشقاء ما يجمعهم أكبر مما يفرقهم، في حين يرى المتمسكون بالواقعية أنها تعبير حاد- غير محدد التوقيت ولا المعالم- عن الغضب الإقليمي والدولي من الخيارات السياسية اللبنانية في العهد الحالي.
وفي السياق تأتي ضرورة التروي في تلمس نتائج الجهود الفرنسية الأخيرة مع المملكة الغاضبة والقلقة من تحكّم "حزب الله" في مفاصل القرار السياسي والعسكري في لبنان؛ وبخاصة أن سوابق جهود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيما يخص الملف اللبناني، وقفت عند حدود الحماسة غير المثمرة. عندما كتبت مقالاً سابقاً بعنوان "ماكرون والماكرون" كانت معرفتي بالشأن اللبناني كافية لأعبر من خلاله عن يقيني بفشل المبادرة التي طرحها الرئيس الفرنسي أثناء زيارته الى لبنان، فجلّ ما كان يعني المجتمعين وقتها في "قصر الصنوبر" بحضرة الرئيس "ماكرون" هو الخشية من عقوبات أوروبية قد تطول أموالهم المودعة في بنوك القارة العجوز، إلا أن الأمر سرعان ما تحول الى عكس ما أرادته المبادرة الفرنسية نتيجة التقاعس الأوروبي باستخدام عصا العقوبات على السياسيين اللبنانيين الذين رمى معظمهم كل الحلول والمبادرات على أعتاب مصالحهم الضيقة. الخوف كل الخوف أن تتكرر المسألة مع هذه البارقة الفرانكو-سعودية التي يبدو أنها مختلفة هذه المرة في جديتها وأهميتها إذا ما تلقفها الداخل اللبناني على الوجه المطلوب الذي يخدم مصلحة بلاد الأرز ومصالح أهلها المقيمين والمنتشرين. فالحلول الجذرية للمعضلة اللبنانية- وإن كان للخارج دور مهم في أسبابها وحلولها- لا يمكن أن تمر إلا من خلال تنازل القوى اللبنانية، الحزبية والرسمية، عن بعض مكاسبهم ومصالحهم في الملفات المحلية الضيقة، ذلك لأن المركب الذي بدأت ثقوبه بالاتساع يهدد غرقه حياة الجميع. لا شك أن للاهتمام الفرنسي بالشأن اللبناني دوافعه التاريخية والواقعية، وليس خافياً أن الرئيس الفرنسي الشاب استخدم مستجدات العلاقة الاقتصادية بين فرنسا ودول الخليج لتسويق بعض الإنجازات الدبلوماسية في حملته الانتخابية القادمة، وبالمقابل فإن الملف اللبناني وعلى قدر ما فيه من تعقيدات داخلية ليس بهامشي بالنسبة إلى دول الجوار. ولعلها فرصة ليستفيد اللبنانيون من التغييرات الإقليمية والدولية الملحوظة على كل المستويات، ابتداء من الحضور الفرنسي اللافت على الساحة الخليجية والعربية، وما أسفر عنه من توقيع اتفاقيات مليارية، عسكرية واقتصادية، مع كل من مصر والإمارات والمملكة العربية السعودية، مروراً بإرهاصات العودة السورية للحضن العربي، وليس انتهاء بعودة الحياة للمفاوضات الدولية حول الملف النووي الإيراني، دون أن ننسى الهامش الملحوظ الذي يبدو أن السياسة الأميركية تتركه، عمداً أو عجزاً، للاعبين الأوروبيين والإقليميين في ساحة الشرق الأوسط. ويبقى السؤال عمّا ستكشفه الأيام القادمة من مستجدات في الداخل اللبناني؟ الواضح من الأمر أن هناك بصيصاً من الإيجابيات التي يمكن رصدها في بعض الملفات كاستقالة الوزير قرداحي، وتصريحات مسؤولي "حزب الله" عن ضرورة وأهمية عودة الحياة إلى الحكومة المعطّلة على أثر تشكيك "الثنائي الشيعي" بحيادية القاضي "طارق بيطار" الموكل بملف التحقيق بانفجار العصر في مرفأ بيروت. إلا أن الإيجابية التي قد تبدو في الأفق تبقى محفوفة بالحذر لا بل بالخطر، فعودة العلاقات الخليجية-اللبنانية لن تكون بالسرعة التي تتمناها الشعوب، ذلك لأن ملف "حزب الله" الذي يثقل هذه العلاقة لم تحن اللحظة الإقليمية والأجنبية لتفكيك عقده أو التخفيف من وطأته، ما لم تخف المفاوضات الغربية-الإيرانية ما يقلب المعادلات ويغيّر الاتجاهات، وهذا ما لا يبدو واضحاً حتى اللحظة. من جانب آخر، فإن البيان المشترك الفرنسي-السعودي لم يتناول فيما يخص الشأن اللبناني سوى بعض المؤشرات التي تعد بما يمكن من مساعدات إنسانية لا اقتصادية للشعب اللبناني، وهذا- إن كتب له أن يتحقق- لن يستطيع وحده أن ينتشل الشعب اللبناني من هوة أزمته الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة. يعرف الجميع أن للحكومة اللبنانية الحالية مهمتين رئيستين: الأولى تعويم الطبقة السياسية استعداداً للاستحقاقات الانتخابية غير المؤكد حدوثها بعد، والثانية تمرير الوقت وتأخير الارتطام الكبير، وكلا المهمتين لا ترتقي إلى مصاف الحلول المصيرية الكبرى، حتى لا نقول عنهما إنهما الخيانة العظمى للشعب اللبناني المتضور ألماً وإحباطاً! يدرك سياسيو لبنان، دون أن يحركوا ساكناً، أنه لم يعد للبنانيين رفاهية تضييع الوقت، ولم يعد للتذاكي أي نصيب في دفع الخطر الداهم أو تحييد مساره على الأقل، فالحكومة اللبنانية يجب أن تكون اجتمعت في الأمس قبل اليوم، وأن تجتمع اليوم قبل الغد، والقضاء يجب أن يستعيد ما تبقى له من استقلال وهيبة، والاقتصاد ينبغي أن يسترد الحد الأدنى من عافيته، وعلى الأحزاب والشخصيات السياسية ألا تخشى التواضع والانحناء في مواجهة العواصف في سبيل بقائها على الأقل إن لم يكن في سبيل المصلحة الجماعية الكبرى. معظم الغرب وبعض الشرق أصبح في مكان لم يعد للبنان أي وجود فيه، فلمَ الغفلة والمكابرة والنكران؟ وإلى متى سنفقد ونفتقد جميعاً-عرباً ولبنانيين- ما اعتدنا عليه من دور مميز وبصمة حضارية للبنان شعباً ودولة؟!* كاتب ومستشار قانوني
مقالات
«ماكرون» مجدداً!
08-12-2021