6/6:أما آن لهذا الوطن أن يَطمئن؟!
في عام 2011 كتبت مقالةً في "القبس" تحمل ذات عنوان اليوم، وقلت فيها:عشرون عاماً منذ أن تحررنا من الاحتلال ونحن نعيش الاحتقان المتواصل والمتراكم، صراعاً وصخباً وتجاذباً وتطاحناً، بين السلطة والحكومة من جهة، والقوى السياسية وممثلي الشعب من جهة ثانية، وبين النواب أنفسهم من جهةٍ ثالثة، وبين الكتّاب والطلاب والمتحاورين مجتمعياً من جهة رابعة، وأصبحنا في ساحات معارك لفظية وتربُّصية مفتوحة لا مجال فيها لهدنة بين المتقاتلين، وليس فيها سلاح محرّم، وأزماتنا واحدة تلد أخرى، وكلما امتلأت نيران احترابنا حطباً قلنا: هل من مزيد؟!غدونا كطائرة مختطفة يمزّق فيها الركاب بعضهم أشلاء بعض في السماء، ولا يدرون متى تهوي بهم إلى الفناء.
عقدان من الزمان انقضيا ونحن نتسابق في صناعة الأزمات واختلاق الصدامات لعلها تشفي غليل كل منّا نحو الآخر، وكل منا يدّعي امتلاك مفاتيح جلب الحقيقة، ومغاليق صد الخطأ، وصكوك الطهارة، ومعاني الوطنية، وسواه ليس إلا عدماً أو سائراً نحو العدم، وكلٌّ منا متربصٌ ومترصدٌ بالآخر وينصب له الشراك، وليس هناك طرف على ضفتَي الصراع معفى من هذه الصيغة العدمية!عشرون عاماً منذ التحرير نجحنا فيها، بامتياز، في إفشاء اللغة المتوحشة فيما بيننا بدلاً من إفشاء السلام، وتميّزنا بالسعي لأن يلغي كلّ منا الآخر، وأصبح من يجادل ويحاور بالحسنى متقاعساً وانهزامياً، أما الأنقياء والوطنيون فهم المتعاركون والنابشون في الأعراض والأنساب ومحاكمو النوايا والمتنابزون بالألقاب والمهرولون إلى ساحاتِ السِّلم الأهلي ليحيلوها إلى مقابر جماعية لآراء مخالفيهم. عشرون عاماً أحسنّا فيها إضاعة فرص التنمية وأجدنا فيها التباكي على اللبن المسكوب... وعلى تراجعنا وتقدّم غيرنا أشواطاً للأمام، كل هذا ولا نزال نحلم باقتباس جيراننا لنموذجنا الديموقراطي الذي طالما بشّرناهم به، ولكن هيهات لهذا الحلم أن يتحقق.أقحمنا الدين والقبيلة والطائفة والعائلة في السياسة قسراً، واتخذناها وقوداً لنيرانِ حروبنا البينية، فتصدّعت قيمنا ومفاهيمنا الاجتماعية والأخلاقية المتوارثة أمام سطوة وقسوة وتوحّش لغة الخطاب وانحدار فضائل الاختلاف، وتفشّي إهدار الكرامات، وأصبحت الديموقراطية لدى البعض هي رأيه ومعتقده، أما سواه فهو الخائن والبائس والمتخاذل... وتوارت أمام هذه الفوضى القِيميّة معاني التواضع وإفساح الدرب أمام الرأي الآخر، فلم يعد رأينا صواباً يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، كما قال الحكماء. الغائب الحاضر المرحوم الدكتور أحمد الربعي، قال يوماً: "الوطن بحاجةٍ إلى الرفقِ مثلما هو بحاجةِ إلى النقد والإصلاح والتقويم، أن نصلح بلدنا من دون أن نؤذيه... وأن نجتث الدمامل التي تطفو فوق وجهه من دون أن يُراق دمه المحرّم علينا جميعاً".رحمك الله يا أحمد وأراحك مما وصلنا إليه، فهناك من يصرّ على تقطيع أوصال الوطن متحججاً بمحبته له، ولا يرى سوى نفسه ومن بعده الطوفان.انتهى مقال الأمس، ولكن صداه باقٍ يتردد في خاطري اليوم بعد مضي ثلاثين عاماً على التحرير، وبعد متابعة مشاهد الصراع والخلاف السياسي في مختلف الساحات منذ ذلك التاريخ وحتى استماعي لبعض الخطابات العنيفة التي تلت "العفو" ووقوفي على صنوف تشويه الآخر، فوجدت نفسي أكرر التساؤل: "أما آن لهذا الوطن أن يطمئن؟!".