أعلن الصحافي البوسني الأسطوري بورو كونتيك حديثاً أن الظروف القائمة في البوسنة والهرسك تشبه الأيام الشاقة التي شهدها البلد منذ عقود: إبرام اتفاقيات، نشوء مؤسسات، تقديم الطلبات، الفوز في الانتخابات أو خسارتها، عقد المؤتمرات، مناقشة المشاكل، تحضير التقييمات... لكن لا يتغيّر شيء بعد هذه التطورات كلها، فبعد مرور 26 سنة على توقيع "اتفاق دايتون للسلام" الذي فُرِض على القادة البوسنيين والكروات والصرب لإنهاء سفك الدماء، بدأت الأحداث نفسها تتكرر وكأن البلد يفتقر إلى الذكريات والتاريخ.لم يُطرَح أي خطاب جديد ولم ينشأ أي واقع جديد، بل أصبحت البوسنة مجدداً غارقة في أزمة عميقة، إذ يستعمل أحد أعضاء الرئاسة الثلاثية، وهو زعيم صرب البوسنة ميلوراد دوديك، خطاباً يُحرّض على الحرب ويهاجم بعنف مؤسسات البوسنة الهشة في محاولةٍ فاضحة لتدمير البلد.
يُعتبر دوديك شخصية مثيرة للاهتمام لكنه ليس ظاهرة استثنائية، فهو أشبه بنسخة مصغّرة من فيكتور أوربان، وعلى غرار رئيس الوزراء المجري، بدأ دوديك مسيرته كسياسي ديموقراطي اختاره الغرب ودعمه، ثم راح يتجه إلى النزعة القومية قبل أن يتبناها بأكثر الأساليب تشدداً، وعلى غرار أوربان أيضاً، أصبح دوديك ثرياً جداً بعد انخراطه في معترك السياسة، وهذا ما مهّد لنشوء حُكم استبدادي، وكما يفعل معظم المستبدين في أوروبا الشرقية والوسطى، بَحَث دوديك عن جهات قادرة على حمايته ووجدها في روسيا. سرعان ما أصبح دوديك عميلاً للسياسة الصربية، مما يعني أنه يزعزع استقرار البوسنة ويتحول إلى عنصر احتياطي لتهدئة الجزء الأكثر قومية من الرأي العام الصربي في حال عقدت صربيا صفقة معينة واعترفت بكوسوفو، وفي هذه الحالة، قد تستعمل صربيا سياسات دوديك الانفصالية لتبرير مطالبتها بضم جمهورية صرب البوسنة (واحدة من وحدتَين إداريتَين تشكّلان جمهورية البوسنة بعد الحرب) كتعويض على خسارة كوسوفو، لكن علاقة دوديك مع صربيا تغيّرت أيضاً بعدما أصبح أداة تخدم الأهداف الروسية الجيوسياسية، واليوم لم يعد دوديك مجرّد دمية لتنفيذ السياسة الصربية، بل أصبحت السياسة الصربية رهينة لديه.دوديك بحد ذاته ليس مهماً، بل إن شجاعته وغطرسته وأهميته هي نتاج الدعم الروسي بكل بساطة، فحين هدّد بتدمير الجيش البوسني للمرة الأولى وطرح فكرة أن تنشئ جمهورية صرب البوسنة جيشها الخاص، قال بنفسه: "إذا حاول أحد منعنا، فلدينا أصدقاء مستعدون للدفاع عنا".لهذا السبب، كانت جميع الاجتماعات الأخيرة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ودوديك مثيرة للشفقة، فلم تكن التنازلات والتسويات التي عرضتها تلك الدول كافية لإرضاء دوديك أو تغيير خطابه التخريبي السام، بما في ذلك التعهد بتقليص صلاحيات مكتب الممثل السامي، أو إقالة القضاة الأجانب الثلاثة من المحكمة الدستورية المحلية، أو نشر خرائط واقتراحات لفرض تغيرات واسعة في البلقان، وسبب المشكلة يتعلق بعجزه عن عقد أي اتفاق بنفسه.لا يمكن لوم دوديك أو أي شخصيات محلية أخرى على جميع الاضطرابات التي تجتاح البوسنة ومنطقة غرب البلقان كلها، إنهم مجرّد عملاء ميدانيين للسياسة الروسية التخريبية، فقبل أن يتواصل قادة الاتحاد الأوروبي دبلوماسياً مع دوديك أو داعميه في الكرملين، يجب أن يفكروا إذاً بالمكاسب التي تريد موسكو تحقيقها عبر زعزعة استقرار البلقان ويتناقشوا حول حل محتمل يفيد الطرفَين.طوال سنوات، تعاملت روسيا مع الاتحاد الأوروبي كمنتدى سياسي محترم لكن غير ضار بشكل عام، ثم تغيّر هذا الوضع بطريقة جذرية بعد عام 2014، وخلال قمة الشراكة الشرقية في فيلنيوس، ليتوانيا، في خريف عام 2013، وقّع الاتحاد الأوروبي على اتفاقيات خاصة مع جورجيا ومولدوفا، ثم مع أوكرانيا في يونيو 2014، وانطلاقاً من تلك المرحلة، بدأت روسيا تتعامل مع الاتحاد الأوروبي كعدو، على غرار حلف الناتو.في الفترة اللاحقة، اندلعت الحرب في أوكرانيا وضمّت روسيا شبه جزيرة القرم، ورداً على ما حصل، قرر الغرب فرض العقوبات ثم ألحقها بعقوبات أخرى، ولا شك أن التحركات الروسية كانت تستلزم ردة فعل قوية، لكن الرد الغربي أدى إلى انهيار التواصل بين روسيا والغرب تدريجاً.كان مجلس حلف الناتو وروسيا، وهو بند دائم في جميع الاجتماعات الوزارية في الحلف، أول كيان ينهار، ثم دُعِي وزير الخارجية الروسي وكبار المسؤولين الآخرين إلى مجالس مختلفة في الاتحاد الأوروبي، كذلك اختفت جميع قنوات التواصل الرسمية وغير الرسمية واحدة تلو الأخرى، وفي الوقت نفسه، بدأت سياسات روسيا تزداد عدائية وخطورة وتُمعِن في التدخّل في شؤون الآخر. اعتبر الكرملين منطقة غرب البلقان ساحة لعب مثالية لفرض نفوذه وإطلاق استفزازاته السياسية، فراح يختبر إلى أي حد يستطيع الضغط قبل أن يردّ الغرب على تحركاته، فمن وجهة نظر روسيا تعطي هذه المنطقة منافع عدة، فهي صغيرة نسبياً ومنقسمة بين دول فقيرة، ولا يصعب تخريبها وزعزعة استقرارها نظراً إلى تاريخها الحديث.كذلك، تقع هذه المنطقة وسط أراضي الاتحاد الأوروبي وتعجّ بدولٍ تطمح للانضمام إلى الاتحاد، ويشعر كبار الدبلوماسيين والسياسيين الروس الذين يتعاملون مع هذا الملف بالدهشة على الأرجح نتيجة غياب أي رد من الاتحاد الأوروبي على مختلف الجهود التخريبية في غرب البلقان عموماً وفي البوسنة خصوصاً. لقد تحوّلت هذه المنطقة إلى رقعة شطرنج افتراضية حيث تريد روسيا فرض نفوذها والتنافس مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لكن يبدو أن روسيا هي الجهة الوحيدة التي تشارك في هذه اللعبة حتى الآن.يواجه الاتحاد الأوروبي منذ فترة صعوبة في توحيد مواقفه حول سياسته التوسعية، فكيف سيتمكن إذاً من اتخاذ خطوات ملموسة لتقريب دول غرب البلقان من الانتساب إليه؟ واجهت جميع دول المنطقة ضربة موجعة حين تراجع الاتحاد الأوروبي عن وعده ببدء محادثات الانتساب إليه مع مقدونيا الشمالية بعدما نجح هذا البلد في التفاوض على حل ثنائي للمشكلة المستعصية التي يواجهها مع اليونان بسبب اختيار اسم البلد.في المرحلة اللاحقة، أضاع الاتحاد الأوروبي وجهته في غرب البلقان، وبدأ الرأي العام في المنطقة يفضّل روسيا والصين باعتبارهما شركاءً جديرين بالثقة أكثر من الاتحاد الأوروبي، وفي غضون ذلك، يبدو أن لاعبَين أساسيَين في الاتحاد (حتى الآن) انسحبا من الساحة وما عادا جزءاً من صناعة سياسة الاتحاد الأوروبي في المنطقة: المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها أنجيلا ميركل (تعمل ألمانيا على تشكيل حكومتها الجديدة)، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (زاد تركيزه على الانتخابات الرئاسية المقبلة في فرنسا).روسيا لا تحتاج إلى دوديك أو أي سياسيين آخرين في البلقان، بل إنها تحتاج إلى إعادة فتح قنوات التواصل مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتجديد قوتها، وستكون هذه الخطوة مهمة إذا أراد الاتحاد الأوروبي حل جزء كبير من مشاكله، وفي ما يخص غرب البلقان، والبوسنة تحديداً، لا يمكن حل المشاكل إلا بين الاتحاد الأوروبي وروسيا مباشرةً، وتبقى روسيا القوة التخريبية الأساسية في البلقان، فهي تستعمل عملاءها المحليين لتنفيذ سياستها، لكن تتجاوز أهدافها على الأرجح حدود هذه المنطقة وتشمل التوصل إلى تسوية أوسع نطاقاً مع الاتحاد الأوروبي.تبدو روسيا حساسة بشكلٍ خاص تجاه "جوارها الخارجي"، أي الجمهوريات السوفياتية السابقة التي أصبحت دولاً مستقلة بعد الاضطرابات الحاصلة في بداية التسعينيات، وأصبحت دول البلطيق الثلاث جزءاً من الأعضاء الراسخين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو اليوم، وقد يؤدي أي اعتداء مفتوح هناك إلى إثارة مشاكل إضافية لروسيا بدل استفادتها من هذه الظروف، لكن وضع أوكرانيا وجورجيا يختلف، ففي مرحلة معينة تلقى هذان البلدان وعداً بالانتساب إلى حلف الناتو ووقّع كلاهما على اتفاقيات مبهمة مع الاتحاد الأوروبي في العامَين 2013 و2014، وبدت تلك الاتفاقيات خطوة أولى نحو الانضمام إلى الاتحاد.في آخر 13 سنة، نفّذت روسيا تدخلاً عسكرياً في جورجيا وأوكرانيا معاً، وأعادت بيلاروسيا إلى الواجهة عبر دعم الدكتاتور المعزول دولياً، ألكسندر لوكاشينكو، إنها الدول التي تعتبرها روسيا جزءاً من نطاق اهتماماتها، وهي تربطها بوضعها الأمني مباشرةً، ومن خلال إبقاء هذه البلدان في حالة دائمة من الصراع الخامد أو المحدود، ستتأثر مصالح روسية أخرى، منها موافقة ألمانيا على متابعة مشروع خط أنابيب الغاز الجديد "نورد ستريم 2". إنها المسائل الكبرى التي تحتاج روسيا إلى التفاهم حولها مع الغرب.في هذه اللعبة المطوّلة، ستكون القوى التخريبية في البلقان مجرّد أوراق مساومة بدل أن تصبح لاعبة مؤثرة، وفي نهاية المطاف، سيضطر الروس وقادة الاتحاد الأوروبي للجلوس معاً ومناقشة الوضع الأمني في أوروبا، لكن هل سيحصل ذلك قبل تدمير المستقبل الأوروبي الديموقراطي في دول غرب البلقان أم بعده؟لن يكون تجديد التواصل مع موسكو مرادفاً للمصادقة على سياسات روسيا، ولكن من دون هذا الحوار، لا يمكن التوصل إلى أي حلول دبلوماسية، حيث يقضي الخيار البديل بمتابعة سياسة حافة الهاوية الراهنة، حيث تترنح الدول الضعيفة دوماً بين استيلاء الحكام المستبدين والمدعومين من روسيا على الدولة والفشل الذريع.*فيسنا بوسيك
دوليات
هدف روسيا الحقيقي في البلقان
10-12-2021