يظن عدد كبير من الأميركيين أن حفظ السلام غير فاعل في أفضل الأحوال وضار في أسوئها، فهم يتذكرون كيف رحلت قوات حفظ السلام عند ظهور أول مؤشر على احتدام المشاكل في رواندا أو عدم تحريكها أي ساكن حين ذبح الجيش الصربي المدنيين المسلمين في البوسنة، ولا ينسون صور الجنود الأميركيين عند جرّهم في شوارع مقديشو، فكل سنة تسأل منظمة "غالوب" الأميركيين عن رأيهم بأداء الأمم المتحدة حين تحاول حل المشاكل التي تواجهها، ويعبّر معظم المشاركين عن عدم إعجابهم بهذه المنظمة في آخر 19 سنة، كما يمقت الجمهوريون تحديداً الأمم المتحدة، فوفق دراسة أجرتها "غالوب" في عام 2020، يحمل 36% من أعضاء هذا الحزب فقط نظرة إيجابية إلى الأمم المتحدة، وهي أدنى نسبة منذ 30 سنة تقريباً.

لكنّ هذه الآراء السلبية حول عمليات حفظ السلام مغلوطة، فقد أثبتت الأبحاث الأكاديمية على مر العقود أن قوات حفظ السلام لا توقف الصراعات فحسب، بل إنها أفضل من جميع الخيارات الأخرى التي يقيّمها الخبراء، وتسمح هذه القوات بوقف الحروب الأهلية وتقليص العنف خلالها، ومنع اندلاع الحروب مسبقاً، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، كما أنها تحمي حياة المدنيين وتُخفّض مظاهر العنف الجنسي، وهي تقوم بهذه المهام كلها بكلفة متدنية جداً مقارنةً بحملات مكافحة التمرد التي تُعتبر أقرب نسخة إليها من بين أشكال التدخّل الأخرى.

Ad

لتقليص مظاهر العنف حول العالم، يجب أن يزيد الأميركيون وشركاؤهم دعمهم المادي لعمليات حفظ السلام ويرفعوا عدد المشاركين فيها، ويجب أن يزيدوا استثماراتهم في تدريبات قوات حفظ السلام، إذ تملك واشنطن سبباً جيوستراتيجياً للتحرك في هذا الاتجاه، فقد بدأت الصين تتجه إلى تأمين موارد إضافية لعمليات حفظ السلام، ويبدو أنها تريد السيطرة على وكالات إضافية داخل الأمم المتحدة، بما في ذلك قسم عمليات السلام، لكن الولايات المتحدة تحمل دافعاً أخلاقياً أيضاً لأن تكثيف الالتزام بحفظ السلام يُرسّخ الاستقرار في العالم وينقذ حياة عدد هائل من الناس.

أجرى المحللون أبحاثاً حول الرابط بين حفظ السلام من جانب أطراف ثالثة وأعمال العنف في عشرات الدراسات، وتوصلت هذه الدراسات إلى نتائج متشابهة على نحو لافت. لقد استعملت قواعد بيانات ونماذج مختلفة وحللت فترات زمنية متنوعة وأشكالاً عدة من حفظ السلام، لكنها استنتجت أن حفظ السلام له أثر واضح وكبير إحصائياً على مستوى احتواء الحروب الأهلية، وإقناع القادة بالتفاوض على التسويات، وإرساء سلام دائم بعد انتهاء الحرب، كذلك، لا تنتج مناطق الصراع التي تنتشر فيها عمليات حفظ السلام صراعات مسلّحة بقدر المناطق التي تخلو منها، بل تتراجع هناك حصيلة القتلى. تبدو العلاقة بين حفظ السلام وتراجع منسوب العنف متماسكة لدرجة أن تصبح من أقوى النتائج التي توصلت إليها أبحاث العلاقات الدولية في الحقبة المعاصرة.

إنه اكتشاف مدهش في جميع الظروف، لكن هذه العلاقة تُعتبر مبهرة على نحو خاص لأن الأمم المتحدة تتدخل عموماً في أصعب الحالات، فقد اكتشف الباحثون أن مجلس الأمن يميل إلى إرسال قوات حفظ السلام إلى الصراعات الأهلية حيث يصعب إرساء السلام والحفاظ عليه: في هذه الصراعات، يرتفع منسوب العنف فوق المعدل العادي، وتطغى مشاعر انعدام الثقة، ويصعب أن ينشأ سلام مستقر بسبب الفقر وسوء الحكم. تذكر أحدث الأبحاث أيضاً أن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لا تنتشر في مناطق الحرب الناشطة فحسب، بل يتم إرسالها إلى الخطوط الأمامية أيضاً.

على صعيد آخر، يكون حفظ السلام غير مكلف، فقد أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 2.1 تريليون دولار على عمليات الطوارئ الخارجية ومخصصات وزارة الدفاع منذ هجوم 11 سبتمبر، لكنها خصّصت في المقابل أقل من 1.5 مليار دولار لميزانية حفظ السلام عبر الأمم المتحدة في عام 2021، ووفق دراسة أكاديمية كبيرة في عام 2019، تبيّن أن الأمم المتحدة كانت ستنجح في تقليص العنف في أربعة صراعات كبرى من أصل خمسة بين عامي 2001 و2012 لو أنفق العالم أموالاً إضافية على حفظ السلام وزاد المهام الموكلة إلى القوات المنتشرة راهناً.

نحو حماية عمليات حفظ السلام

يبدو أن بلداً واحداً على الأقل يفهم قوة حفظ السلام: الصين، فبعد انسحاب واشنطن من عمليات حفظ السلام العالمية، سارعت بكين لملء هذا الفراغ وأصبحت ثاني أكبر مساهِمة مالية وأبرز مساهِمة عسكرية في جهود حفظ السلام من بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وهذا التغيير لن ينعكس إيجاباً على مستقبل نشر الديموقراطية أو حماية حقوق الإنسان.

تكون الصراعات وفترات الفوضى فرصاً لرسم المشهد السياسي في الدول، وتدرك الصين أنها تستطيع استعمال عمليات حفظ السلام لتحديد نوع وتركيبة الحكومات التي تتسلم السلطة بعد انتهاء الصراعات، كذلك تعرف بكين أن حفظ السلام بحد ذاته قد يصبح سلاحاً لتحقيق المصالح الوطنية، وفي عام 1999، استفادت الصين من حق التصويت الذي تملكه في مجلس الأمن لإجبار قوات حفظ السلام على الرحيل من مقدونيا بعد اعتراف البلد بتايوان دبلوماسياً، لكن غرق البلد في حرب أهلية بعد رحيل قوات الأمم المتحدة (عاد واسترجع استقراره في نهاية المطاف بفضل حلف الناتو)، ونظراً إلى تصرفات بكين، يجب أن تتساءل الولايات المتحدة إذا كانت ترغب في التنازل عن سيطرتها على هذه الأداة المهمة.

إذا قرر صانعو السياسة الأميركية تأمين تمويل مناسب ودعم ديموقراطي لعمليات حفظ السلام، وهي خطة ضرورية، فيجب أن تتخذ واشنطن بعض الخطوات الأساسية:

أولاً، يُفترض أن تدفع الولايات المتحدة ما تدين به، وبما أن الحكومة الأميركية هي أكبر مموّلة لقسم عمليات السلام في الأمم المتحدة، سيكون دورها القيادي أساسياً للسماح بإطلاق مهام الأمم المتحدة وتحديد معالمها، ولإقناع دول أخرى بتقديم مساهمات مالية، يجب أن تصبح الولايات المتحدة قدوة أفضل للآخرين عبر دفع مستحقاتها.

ثانياً، يجب أن تقنع واشنطن الأعضاء الأربعة الدائمين الآخرين في مجلس الأمن (الصين، فرنسا، روسيا، بريطانيا) بالتعاون في ما بينهم لحفظ السلام، إذ تميل هذه القوى أحياناً إلى استعمال المهام كوسيلة لتحقيق أولوياتها الاستراتيجية الخاصة، لكنها تحمل مصلحة مشتركة في وقف الحروب الأهلية التي تؤجج مظاهر التطرف والإرهاب وتُشعِل أزمات اللاجئين، فيجب أن تتوصل تلك الأطراف إذاً إلى رؤية مشتركة حول حفظ السلام، لا سيما في زمن احتدام المنافسة بين الدول راهناً، ولا يمكنها أن تسمح للمنافسة التي عاقت حفظ السلام على مر الحرب الباردة بالتحول إلى عائق ضخم يحول دون استعمال هذه الأداة الفاعلة اليوم.

أخيراً، يجب أن تستعمل الولايات المتحدة ودول أعضاء أخرى في الأمم المتحدة المعلومات التي تعرفها عن مهام حفظ السلام الناجحة لزيادة فاعلية العمليات الناشئة، ويعني ذلك أن تزيد الدول استثماراتها في المهام الوقائية بدل السماح بالانتشار العسكري بعد اندلاع أعمال العنف، كما يحصل اليوم في معظم الحالات، كذلك يجب أن تتجاوب الدول الأعضاء سريعاً عندما تطلب منها الأمم المتحدة تقديم إمكانات مسلّحة أساسية مثل وحدات الشرطة، وحين يُطلَب منها أن تؤمّن موارد غير مسلّحة مثل المستشفيات الميدانية، والمراقبين، والفِرَق الطبية، والموظفات.

تكشف الأبحاث أن العوامل الاقتصادية التي تدعم حفظ السلام تكون فاعلة بقدر القوة العسكرية العنيفة على الأقل، حتى أنها قد تتفوق عليها. يسمح نشر مراقبي حفظ السلام مثلاً بتخفيض احتمال أن تطلق الجماعات المسلّحة اعتداءات مفاجئة، وتسهيل وصول المساعدات إلى مناطق الصراع، وزيادة الدعم الدبلوماسي للسلام، وغالباً ما يتأثر الرأي العام المحلي أيضاً عبر زيادة دعم السكان للخطاب السلمي، كذلك تستطيع قوات حفظ السلام أن تساعد الأطراف المتناحرة في التواصل في ما بينها وتُخمِد الخلافات قبل تفاقمها.

بعد عقود من حملات مكافحة الإرهاب، سئم الأميركيون بكل وضوح من الالتزامات العسكرية في الخارج، وفي النهاية، لم تُحقق الولايات المتحدة نجاحاً كبيراً في إنهاء الصراعات التي تدخّلت فيها، لكن بدأ عدد الحروب الأهلية حول العالم يتراجع، ومن واجب المجتمع الدولي أن يكثّف محاولات وقف الصراعات المدمّرة، ولحسن الحظ يحصل القادة، بفضل قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، على أداة فاعلة وغير مكلفة للتعاون وحل الصراعات وحماية المدنيين، لكن لتلبية حاجات العالم، يجب أن يقدّم صانعو السياسة الأميركية المزيد من الدعم والتمويل للأمم المتحدة، ويُفترض أن يفهموا أولاً أهمية حفظ السلام حتى الآن.

*باربرا ف - والتر، ليز مورجيه هاورد، فرجينيا بايج فورتنا

Foreign Affairs