في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2002 حصل مرشح اليمين المتطرف "جان ماري لوبان" على نسبة لافتة من الأصوات تخوله المنافسة في الجولة الثانية التي تضافر فيها اليسار الفرنسي- الذي خسر مرشحه انتخابات الجولة الأولى- مع مؤيدي مرشح اليمين الجمهوري "جاك شيراك" لتبديد أي فرصة أمام العنصرية لحكم فرنسا، ففاز الرئيس شيراك بنسبة كبيرة وغير مسبوقة بلغت 82.2% من أصوات المقترعين، فنجح التضافر المجتمعي والوعي السياسي في المحافظة على صورة فرنسا المشرقة.وها هو الكاتب "ايريك زمّور" يعلن ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة ليكون وجوده في السباق الرئاسي أخطر من أي وجود ليميني متطرف آخر؛ ليس لأنه يجاهر بالعداء للمهاجرين ولا سيما العرب والمسلمين منهم فقط، بل لأنه متحدر من عائلة يهودية هاجرت من الجزائر الى فرنسا الديموقراطية، الأمر الذي يثير استغراباً موجعاً من انقلاب بعضهم على تاريخهم والتنكر لكل القيم والأخلاق والوقاحة في حرمان غيرهم من أي فرصة تخولهم التنعم بما سبق أن تنعموا هم به!
في رده على سؤال عن موقفه من المسلمين في فرنسا وعن إمكانية تقبل عاداتهم وتقاليدهم، أجاب "زمور" أنه "سيفعل ما فعله نابليون بونابارت مع اليهود أثناء الثورة الفرنسية"، أي أنه سيحظر تسمية المولودين في فرنسا بأسماء غير فرنسية، مما يعني أن اسم "محمد" والأسماء التي توحي بأصول شرقية أو إفريقية سيكون استخدامها محرماً كاسم أول رئيسي في النهج "الزموري".وفي السياق لم يخجل "زمور" من المجاهرة بأنه "كان الأجدر بوالدي لاعب كرة القدم زين الدين زيدان أن يطلقوا عليه اسم "جان زيدان" بدلا من زين الدين احتراماً للقانون النابليوني الذي بقي سارياً حتى عام 1993".يؤسس "زمور" حملته الانتخابية على فكره العنصري الرافض لكل المظاهر الثقافية والدينية واللغوية التي يتمسك بها أبناء الجاليات الإفريقية والعربية والمسلمة في فرنسا، ويحمل في سبيل ترويج أفكاره شعار "الاندماج في الثقافة الفرنسية" الذي يريد منه دفع الأجانب والمهاجرين المجنسين الى الذوبان والانصهار في المجتمع الفرنسي دون الاعتبار لأي انتمائية أو قناعة أو تقليد أو قيمة قد يحملونها من مجتمعاتهم الأساسية، الأمر الذي يستحيل تطبيقه عملياً، ويؤدي في نهاية المطاف إلى تكريس "صراع الحضارات" لا تعزيز "تفاعل الثقافات".كلّي ثقة بأن الشعب الفرنسي- مهما كان ممتعضاً أو متأذياً من تصرفات بعض المهاجرين الذين يعانون عقداً تاريخية وأزمات نفسية وفورات عصبية- سيكرر موقفه المشرف الذي اتخذه في انتخابات عام 2002، ولن يتنكّر لشعار جمهوريته الذي يعتز به "حرية، مساواة، أخوّة" مما سيقطع الطريق أمام "زمور" في الوصول إلى قصر "الإيليزيه" ومما سيمنعه حتى من أن يحصل على نسبة مئوية معتبرة في الانتخابات الرئاسية القادمة.***العنصرية آفة ليست من منظور ديني وأخلاقي وقيمي فقط، بل حتى من منظور المصلحة الوطنية العليا، فلا يمكن لأي مجتمع أن يشارك في ركب الحضارة الإنسانية إذا ما تنكّر للإنسانية نفسها، ولا يمكن لأي دولة أن تبني مستقبلها إذا لم يشارك في بنائه الأكفاء من شتى أنحاء الأرض، ولا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو من غير انفتاح تجاري واجتماعي، ولا يمكن لأي ثقافة أن تزدهر إذا بقيت حبيسة التقاليد والحذر من الاختلاط التفاعلي بثقافات أخرى.***يجرنا الحديث لتحية المرأة الحديدية المستشارة الألمانية التي أنهت حياتها السياسية طوعاً وهي في عزّ مجدها السياسي حاكمة لواحد من أكبر اقتصادات أوروبا والعالم، تلك المرأة الوطنية المسيحية الديموقراطية التي يناديها المهاجرون "ماما ميركل"، بما يوحي أنها من بين القلة التي تصغي حقاً لرسول الإسلام الأكرم بقوله "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية"، ومن بين الذين يطبقون- ربما من غير أن يؤمنوا- قوله تعالى في محكم تنزيله "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".فالعصبية لا تنسجم مع التمسّك بالقيم والتقاليد، كما أنها لا تخدم الوطنية والحصانة المجتمعية، ذلك لأن من مصلحة أي مجتمع أن يوازن بين تمسكه بجذوره التاريخية وخصوصيته المحلية من جهة، والتفاعل الإيجابي مع المجتمعات الأخرى من جهة ثانية.فإذا أراد أي من المجتمعات الشرقية أو الغربية، الإسلامية أو غير الإسلامية، أن يبقى بمنأى عن "الجاهلية" وفكرها العنصري التفريقي، فليس عليه إلا أن يطلق "زمور الخطر" بوجه عصبية "زمور" وأمثاله، بحيث لا يبقى لكل تفرقة إثنية أو قبلية أو طبقية ولا لأي تمييز من حيث الحضارة أو الجنسية أو الدين أو الانتماء أي مجال للتحكم في زمام الأمور ومصادر عيش الناس.* كاتب ومستشار قانوني
مقالات
«زمّور» العنصرية
12-12-2021