يبدو أن الحياة بعد المئة باتت هدفاً قابلاً للتحقيق، وهناك أشخاص يعيشون بيننا تجاوزوا "المئوية" أو اقتربوا منها، وإن كنت لا أعرف كم عدد المواطنين الكويتيين الذين بلغوها كرقم إجمالي، قد تكون ظاهرة لافتة بطول الأعمار، لكنها تحتاج إلى دراسات وأبحاث وإن تطلب الأمر وقفة وفاء وتكريم لهؤلاء في حياتهم.

تختلف أنماط العيش بين شخص وآخر لكنها تبقى ذات مغزى لمعرفة ما إذا كان لطول العمر علاقة بالنظام الغذائي الذي يلتزم به أم بممارسة الرياضة التي يواظب عليها أم بنوع الجينات الخاصة بكل واحد منهم، وفي كل الأحوال فهؤلاء قهروا الشيخوخة وتغلبوا عليها.

Ad

لي معرفة بالصديق أمين محفوظ فنان تشكيلي سوري يقيم في الكويت منذ الخمسينيات عاشق للموسيقى والرياضة، اقترب من التسعين وما زال يمارس الرسم بشكل يومي ولديه وصفة نظام غذائي دأب عليه منذ ربع قرن بعد أن أصيب بسرطان البروستاتا وهو في مرحلة متقدمة، لكنه تعافى منه والحمد لله، هذا الرجل كلما خرج فجراً إلى ممارسة الرياضة والسباحة الشتوية وأكون برفقته رفع يديه إلى السماء طالباً من الله أن يأخذ منيّته وهو يهرول على شارع الخليج العربي وبصحة السلامة قبل أن تأتي الساعة ويكون طريح الفراش، بل هو يخطط الآن ليكمل بقية حياته في جبال التيبت مع الرهبان، فهناك الحياة أهدأ والطبيعة أنقى وأجمل على حد تعبيره.

أمين محفوظ ليس الأول من النماذج المعمرة التي تعطينا دروساً وعبَراً نحن في أمس الحاجة إليها، فالعم الفاضل الأستاذ فخري شهاب سيبلغ الـ100 عام بحلول فبراير 2022، وما زال يتابع ما يجري من أحداث في العالم مستعيناً بسيدة هندية تقرأ له الصحف الإنكليزية يومياً، ويمضي معظم وقته في المنزل، حيث بات مقصداً لمحبيه وأصدقائه الذين يتفقدونه ويؤنسونه بمجالستهم له وأحاديثهم معه، خصوصاً الصديقين إقبال العثيمين وعبدالمحسن تقي مظفر، وآخرين يتجمعون في شقته للاطمئنان عليه بين وقت وآخر.

تزاملت لسنوات مع الأستاذ فخري شهاب في "القبس" وارتبطت معه بصداقة وعلاقة قريبة جداً، وكان بيننا جلسات من الحوار الممتع والمفيد، وهو صاحب الخبرة الطويلة في حقول السياسة والاقتصاد والعلوم.

وقبل أن يبلغ المئة عام أصدر كتاباً قيماً "اليابان كما عرفتها" وفيه يروي تجربة هذا البلد بكيفية النهوض التي نجح فيها بعد استسلامه دون قيد أو شرط في الحرب العالمية الثانية، وتعرضه لجريمة العصر بالقنابل النووية التي أبادت ودمرت مدناً بأكملها.

رأى أن "القنوط المخيف" الذي يمر بأمتنا العربية مبرر لإصدار هذا الكتاب "وتذكير أمتنا بما حصل في اليابان" محاولة منه لتنبيه القادة والمفكرين وخصوصا الجيل الجديد، بأن أمة أخرى كان قد كتب لها أن تُمنى بأقسى مما امتُحنا به وعَزَمَتْ على إدراك النجاح، في أظلم ساعات محنتها.

بعد أن توفيت زوجته لم يعد قادراً على أن يهتم بنفسه، وصار يشكو من ضعف سمعه وكان من الصعب عليه أن يجاري محدثيه، أظهر قدراً كبيراً من حبه للحياة وإن صارت مريرة بعد فقدان أقرب الناس إليه، لكنه مؤمن بإرادة الله وسنّة الحياة، أجيال تتعاقب وأخرى تولد وتموت وهكذا هي الدنيا.

فخري شهاب مدرسة بالعصامية فقد كانت له إسهامات جليلة في معركة "الاستقلال النقدي" وحماية الدينار من ربطه بعملة واحدة، وعمل على عزله عن تذبذب العملات الأخرى ليحتفظ بقيمته الأصلية.

كذلك في إنشاء البنك المركزي والصندوق الكويتي وذلك في عهد المرحوم الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح ومرافقته له منذ الستينيات كمستشار.

نتحدث عن جيل المعمرين، منهم من رحل ومنهم من ما زال على قيد الحياة، وفي هذا الشأن أجد أن ما أقدم عليه العم إبراهيم طاهر البغلي في مبادرته "مبرة الابن البار" ما هي إلا عنوان إنساني رائع علينا ترسيخ قيمه في مجتمعاتنا، والتمسك به وشحذ الهمم نحو البر بكبار السن.

لنعش الحياة بروح طيبة وإنسانية حتى لو بلغنا من العمر عتياً، فتلك غاية نبيلة لمن سعى إليها أو سار على دربها.

● حمزة عليان