استكمالاً لمقالي السابق حول "إخراج الدين من التسخير لخدمة الصراع السياسي" كأساس أول لإعادة كتابة العقد الاجتماعي، أتناول هنا الأساس الثاني، وهو مفهومي لـلإصلاح الديني.يحكم البيئة الثقافية العربية (3) خطابات: الخطاب التعليمي، الخطاب الإعلامي، والخطاب الديني، أما الخطاب التعليمي فهو خطاب تلقيني آحادي ينمي ثقافة الحفظ والاستذكار في عصر لا حاجة فيه إلى ثقافة الذاكرة التي تشدنا إلى الماضي، بمقدار حاجتنا إلى ثقافة الإبداع التي تمكننا من التجاوز إلى آفاق المستقبل، وفضلاً عن ذلك فإن خطابنا التعليمي السائد أنتج عقلية منغلقة يسهل انزلاقها للتعصب والتطرف، وخرج جيوشاً من العاطلين يفتقدون المهارات المطلوبة للتنمية وسوق العمل.
وأما الخطاب الإعلامي فلايزال تعبوياً يغذي الغرائز الأولية في الإنسان العربي تجاه الآخر المختلف داخلياً وخارجياً، كما يتبنى لغة الشحن العاطفي والتهييج والإثارة الإعلامية بهدف كسب أكبر عدد من المشاهدين العاطفيين، في سباق إعلامي غير صحي وغير عقلاني، الفائز فيه الأكثر تهييجاً وإثارة للعواطف الجماهيرية.وأما الخطاب الديني بتمثلاته الثلاثة: "التقليدي والسلفي والصحوي" فهو خطاب مأزوم، عاجز عن مواجهة تحديات العصر، فشل في تحصين شبابنا ومجتمعاتنا من أمراض التطرف والتشدد والانغلاق.وإذ لا يبدو في الأفق القريب ما يدعو للتفاؤل في شأن إصلاح الخطاب التعليمي والإعلامي، فلا يبقى أمامنا إلا السعي لإصلاح الخطاب الديني بوصفه الأكثر فاعلية في الارتقاء بالثقافة المجتمعية، فمجتمعاتنا وعقلياتنا، شئنا أو أبينا، محكومتان بالخطاب الديني السائد تاريخيا وإلى اليوم.وهنا أطرح هذا التساؤل: ما أهمية الإصلاح الديني وتطوير خطابه؟لا أزال مؤمناً بأن الإصلاح الديني وتطوير خطابه ليكون مواكباً وقادراً على مواجهة التحديات المعاصرة، هو المدخل الضروري للتجاوز والعبور (عبور فجوة التخلف المتسارعة) بيننا وبين العالم المتقدم. لقد أنتج الخطاب الديني المتسيد للفضاء الثقافي العربي عقليات منغلقة تؤمن بأن مستقبلها ماضيها الذي يجب أن تستعيده وتحييه بالعنف والإرهاب. لقد أورد هذا الخطاب شباب المسلمين المهالك، إذ حبب إليهم تفجير الذات بوصفه أسمى الجهاد فحولهم إلى قنابل بشرية موقوتة، والمسلمون بعد أن كانوا خير أمة تدعو للخير والسلام والتسامح، أصبحوا أمة يتوجس العالم منها.إننا اليوم بحاجة ماسة إلى الإصلاح الديني وإلى أنسنة خطابه الدعوي، ليكون خطاباً يحتضن الإنسان لكونه إنساناً كرمه الخالق عز وجل "ولقد كرمنا بني آدم" بغض النظر عن معتقده وجنسه وأصله.نريد خطاباً دينياً يحفز شبابنا على العمل والإنتاج والابتكار والإبداع، يستثمر طاقاتهم الشبابية في البناء والتعمير لا الهدم والتدمير، يشيع البهجة في صدورهم، ويبعث الأمل في نفوسهم، ويحببهم في الحياة والناس والمجتمع، نريد خطاباً دينياً متسامحاً، متصالحاً مع العصر، منسجماً مع روحه، منفتحاً على ثقافاته، معززاً حقوق الإنسان وحرياته، فرسولنا عليه الصلاة والسلام رحمة مهداة، وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق.لا نهضة لمجتمعاتنا إلا بالإصلاح الديني وتطوير خطابه ليواكب المستجدات، ويواجه التحديات، ويستجيب للمتطلبات، وكل مسعى خارج هذا الإطار محكوم بالفشل، ولعلنا نتذكر أن أوروبا كانت غارقة في الظلمات قبل 400 عام، وما قامت نهضتها إلا بالإصلاح الديني في القرن 16، الذي بدأه القس المصلح لوثر بتحرير العقل من سلطان الكنيسة، أي حق المسيحي في الفهم الحر للنص الديني بلا معونة رجال الدين أو الكنيسة. هذا الإصلاح هو الذي مهد للتنوير في القرن 18، أي تحرير العقل من كل سلطان إلا سلطانه، فأصبح العقل الأوروبي حاكماً بعد أن كان محكوماً، ليفجر الطاقات الجبارة الكامنة في الإنسان، ولينتج المعجزات العلمية والتقنية التي غمرت العالم.وإذ لا نكران لمساعي علمائنا عبر التاريخ في الإصلاح الديني وخاصة جهود الإمام محمد عبده وتلاميذه من بعده عبر100 عام إلا أنها لم تحقق النقلة النوعية المنشودة، لأنها لم تنجح في تحرير العقل من سلطان النقل. يتبع،،،* كاتب قطري
مقالات
إعادة كتابة العقد الاجتماعي (4) الإصلاح الديني
13-12-2021