لم تكن المواجهة بين بيلاروسيا والاتحاد الأوروبي لتحديد مصير آلاف المهاجرين وطالبي اللجوء من الشرق الأوسط وإفريقيا ضرورية كي نتذكر أن رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، هو دكتاتور وحشي لا يهتم بمعاناة البشر، إنها حقيقة معروفة، لكنّ الدرس الأساسي المستخلص من هذه الأزمة يتعلق بما تعنيه الأحداث الأخيرة بالنسبة إلى قدرة الدول على معالجة المشاكل المعقدة التي تُسببها تنقلات الناس الواسعة.في المقام الأول يجب أن نعترف بأن ما يقوم به لوكاشينكو ليس جديداً، فقد خاض لعبة مماثلة في عامي 2002 و2004 وهدّد بإرسال موجة من اللاجئين إلى أوروبا ما لم تتحقق مطالبه، وقد استغلت دول أخرى كثيرة النازحين واللاجئين لانتزاع تنازلات من الآخرين.
غالباً ما تنجح الدول التي تستعمل أسلوب الإكراه عبر استغلال الانقسامات السياسية في الدول المستهدفة، وتحديداً بين الجماعات التي تتعاطف مع أزمة اللاجئين وتلك التي تعارض دخولهم إلى دول المقصد، فهذا النوع من الانقسامات الداخلية واحتمال خسارة الدعم السياسي يمنح القادة في الدول المستهدفة حافزاً لتبديد المشكلة عبر الرضوخ لمطالب الدول القمعية، وبالنسبة إلى الدول الضعيفة التي تفتقر إلى أي وسائل أخرى لفرض الضغوط، قد يكون استغلال اللاجئين بطريقة متعمدة أو انتهازية حيلة مغرية.يملك لوكاشينكو سبباً وجيهاً لاعتبار هذه الحيلة الوحشية التي تستهدف بولندا فاعلة، فقد أدت الاشتباكات السابقة بين بولندا وهيئات الاتحاد الأوروبي في بروكسل إلى عزل البلد داخل حدود المجتمع الأوروبي، وربما ظن لوكاشينكو أن معظم الدول الأوروبية لن تتعاطف مع أزمة البولنديين، أو ربما كان يتكل على دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يحبذ دوماً نشر الانقسامات داخل أوروبا، وبما أن جهوده السابقة لاستعمال الأبرياء كدمى لديه نجحت ولو جزئياً، ما الذي يمنعه من توقّع نجاح المقاربة نفسها هذه المرة؟لكن يبدو أن لوكاشينكو أغفل عن التحولات الحاصلة في التوجهات الأوروبية بشأن الهجرة في السنوات الأخيرة، ولا سيما المواقف التي تزداد تشدداً تجاه طالبي اللجوء من الشرق الأوسط وإفريقيا، وفي هذا السياق، كتبت صحيفة "نيويورك تايمز" حديثاً أن اللاجئين السياسيين من بيلاروسيا يُسمَح لهم بالبقاء في دول المقصد مثل ليتوانيا، في حين يتعرّض المهاجرون الذين يعبرون في بيلاروسيا من العراق أو سورية للاعتقال أو الترحيل، إذ يتعلق الفرق باعتبار الفئة الأولى مشابهة ثقافياً للدول التي تقصدها.إذا كانت الهجرة القسرية المبرمجة تعطي مفعولها عبر استغلال الصراعات داخل دول المقصد، لا وجود في هذه الحالة لأصوات قوية سياسياً للمطالبة باستقبال المهاجرين، بغض النظر عن خطورة الأزمة التي يواجهونها، ويدرك السياسيون في أنحاء الاتحاد الأوروبي هذا الواقع، فهم يعرفون أيضاً أن عدد اللاجئين المحتملين أكبر بكثير وأن الرضوخ لمطالب لوكاشينكو المرتبطة برفع العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي، غداة حملته القمعية العنيفة ضد خصومه الذين تحدّوا الانتخابات التي سرقها في عام 2020، سيُمهّد لتكرار الأحداث نفسها، كذلك سيؤدي الضغط على بولندا لفتح حدودها إلى تدفق عدد كبير من المهاجرين المحتملين مع أن الاتحاد الأوروبي يفضّل استبعادهم اليوم، فبدل الاستسلام قرر المسؤولون في الاتحاد الأوروبي ألا يضعوا الصراع في خانة "أزمات الهجرة" بل اعتبروها "محاولة من نظام استبدادي لزعزعة استقرار الدول الديموقراطية المجاورة".كشف هذا النوع من الأحداث حجم التفاوت (أو النفاق برأي البعض) بين القيم الليبرالية التي يرتكز عليها الاتحاد الأوروبي وتصرفات الدول الأوروبية الفردية التي لا تهتم إلا بتحقيق مصالحها الخاصة، حيث ترتكز الليبرالية في الأساس على القناعة القائلة إن جميع البشر يملكون حقوقاً أساسية لا يمكن انتهاكها لأي سبب، وانطلاقاً من وجهة النظر هذه، لا أهمية لمكان ولادة الفرد، لا سيما إذا كان يهرب من العنف والقمع السياسي، فهذه القناعة بالذات هي التي شكّلت مصدر إلهام لاتفاقية الأمم المتحدة للاجئين في عام 1951، وهي تمنع الدول صراحةً من إعادة اللاجئين إلى أوطانهم خوفاً من اضطهادهم هناك.لكن حين تحتدم الظروف، يتّضح سريعاً أن دول أوروبا ليست ملتزمة بهذه المبادئ العالمية بقدر ما توحي به، بل إنها أكثر اهتماماً بحماية هوياتها الضيقة وأسلوب حياتها، فلا يحق للأميركيين طبعاً أن ينتقدوا الأوروبيين في هذا المجال، فقد تراجعت نزعة الولايات المتحدة إلى استقبال اللاجئين في السنوات الأخيرة أيضاً، وقد تستفيد شعوب أوروبا المُسنّة والمتراجعة من توسّع موجة الهجرة اقتصادياً، لكن أدت أزمة اللاجئين في عام 2014 إلى إطلاق موجة من الشعبوية اليمينية وغيّرت المواقف الأوروبية ودفعتها نحو تبنّي مقاربة معادية للمهاجرين.يُسلّط هذا الفصل من الأحداث (وفصول أخرى كثيرة) الضوء على عجز النظام العالمي الراهن عن التكيّف مع تنقلات الناس على نطاق واسع، إذ يرتكز النظام الدولي الحالي في المقام الأول على نزعة الدول المستقلة إلى فرض سيطرتها الحصرية على مساحة محددة، ومع مرور الوقت، أصبح معيار سيادة الأراضي أكثر ارتباطاً بفكرة القومية، أي القناعة القائلة إن الجماعات التي تتقاسم اللغة والتاريخ والثقافة يحق لها أن تحكم نفسها وتحافظ على هويتها الثقافية في إطار منطقة جغرافية ترتبط بها تاريخياً.نظراً إلى توسّع الرغبة في الحفاظ على الوطن والطابع الوطني (بغض النظر عن معنى هذا المفهوم)، ليس مفاجئاً أن ترغب الدول في الحفاظ على كامل صلاحياتها لتحديد الجماعات التي تستطيع دخول أراضيها أو العبور منها أو البقاء فيها، ولا يعني هذا الهدف طبعاً أن تكون الحدود الوطنية غير قابلة للاختراق، حيث تدرك الدول أنها ستصبح في وضعٍ أفضل إذا وافقت على تبادلات طوعية مع الجهات الخارجية، لذا قررت أن تطرح مجموعة متنوعة من الإجراءات لتسهيل أنواع أخرى من التنقلات عبر الحدود. وتتحكم منظمة التجارة العالمية ومجموعة من الترتيبات الثنائية ومتعددة الأطراف بحركة السلع عبر الحدود الوطنية، وتنجح سلسلة من الأنظمة والقواعد والأدوات التكنولوجية والمؤسسات في السيطرة على حركة الاستثمارات الخارجية، وتبادل العملات، وصفقات مالية أخرى عبر الحدود.في المقابل، تبدو الترتيبات المعنية بالسيطرة على تنقلات الناس أقل تطوراً وليست مقبولة عالمياً بالقدر نفسه، حيث تتحمل أنظمة فاعلة ومنظمات ذات صلة مسؤولية التحكم بحركة السياحة العادية، مثل النظام الراهن لمنح جوازات السفر، لكن ما من إجماع عالمي حول الشروط التي تحكم انتقال الناس إلى دول أخرى لفترات مطوّلة (أو بشكلٍ دائم)، ولا وجود لأي "منظمة هجرة عالمية" لتحقيق هذه الغاية مثلاً.عملياً، عمدت الدول إلى حماية حقها في تحديد الجهات التي تستطيع دخولها أو البقاء في أراضيها، فضلاً عن تحديد المعايير والعمليات التي تسمح للمهاجرين بنيل الجنسية في المكان الذي يستقرون فيه، وفي هذا السياق، تقول الأكاديمية جاكلين بابها من جامعة "هارفارد" إن "حدود التنقلات البشرية تُقررها الدول بحد ذاتها... تُعدّل الدول قوانينها لإقامة توازن بين تسهيل التنقلات وحماية الموارد الداخلية بالشكل الذي تراه مناسباً".بالتعاون مع لينا كاينز، يكتب ألكسندر بيتس، خبير في مسائل الهجرة في جامعة "أكسفورد": "بدل إقرار نظام موحّد للتنقل، ما من إطار عمل مؤسسي رسمي أو متماسك ومتعدد الجنسيات لتنظيم استجابات الدول تجاه حركة الهجرة الدولية، بل إن النظام القائم اليوم هو عبارة عن نسيج مجزّأ من المؤسسات، وهو يشمل مختلف المجالات السياسية ومستويات الحُكم ويغفل عن المسائل المهمة المعلنة أو العالقة". المنظمة الدولية للهجرة ليست وكالة رسمية تابعة للأمم المتحدة، وهي لا تملك تفويضاً معيارياً أو القدرة على إنفاذ القوانين.في الحالات العادية، يتم التعامل مع حركات العمال الأجانب المؤقتين عن طريق الاتفاقيات الثنائية بين الدول، لا عبر اتفاق عالمي رسمي، كما أن الجهود المتكررة لعقد اتفاق عالمي حول الهجرة حققت نتائج متواضعة في أفضل الأحوال، منها حوارات رفيعة المستوى برعاية الأمم المتحدة في العامين 2006 و2013، ومبادرة "نانسين" حول النزوح العابر للحدود بسبب الكوارث في عام 2012، وقمة معالجة التنقلات الكبرى للاجئين والمهاجرين في عام 2016. ويُحدّد الاتفاق العالمي للهجرة المبرم في عام 2018 بعض الرغبات الواسعة حول هذا الموضوع، لكنه لا يشمل أي معايير قوية ولا يُعتبر مُلزِماً من الناحية القانونية في مطلق الأحوال، فحتى الآن لا تزال الجهود الرامية إلى التعامل مع تدفقات اللاجئين أو المهاجرين ضيقة وخاصة، وهي تنحصر في مناطق معينة ولا ترتبط بمبادئ معيارية واسعة النطاق.يضيف بيتس وكاينز: "لطالما كان اقتناع الدول بأن توسيع مظاهر الحُكم العالمي في هذا الملف يؤدي إلى تراجع السيادة العائق الأساسي أمام تطوير مفهوم الحُكم العالمي في موضوع الهجرة". باختصار، يتكل العالم حتى الآن على حلول ذاتية عند التعامل مع تنقلات الناس، ولهذا السبب تصبح الأزمات التي تشبه تلك الناجمة عن المواجهة الراهنة على حدود بيلاروسيا ممكنة.حبذا لو كنا نعلم كيفية حل هذه المشكلة، لكن يسهل أن نتوقع تفاقم الوضع بدرجة إضافية خلال السنوات المقبلة، إذ تتعدد العوامل التي تُشجّع أعداداً متزايدة من الناس على البحث عن مواقع أكثر غنىً وأماناً، منها التركيبة السكانية، واستمرار مظاهر اللامساواة الاقتصادية، والعنف السياسي، والتغير المناخي، لكن من المستبعد أن ترحّب دول المقصد بهم لدرجة أن تستقبل جميع الأعداد الوافدة، وانطلاقاً من النزعات الأخيرة، من المتوقع أن تحصل عملية معاكسة، فقد يفشل رهان لوكاشينكو في هذه الظروف، لكنها ليست المرة الأخيرة التي تُستعمَل فيها "أسلحة الهجرة الجماعية".* ستيفن والت
دوليات
العالم لا يملك الحل لأزمات الهجرة
17-12-2021