على الولايات المتحدة أن تراهن على بنغلادش!
تقدّم بنغلادش فرصة استراتيجية مهمة للولايات المتحدة، فمن خلال تعميق الشراكة مع العاصمة دكا، تستطيع واشنطن أن تكثّف الجهود التي يبذلها الأميركيون وشركاؤهم الأستراليون والهنود واليابانيون للتصدي للقوة الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن يجب أن تتوخى الدبلوماسية الأميركية الحذر، إذ تريد بنغلادش أن تقيم توازناً معيناً في علاقاتها مع بكين ونيودلهي، مع أنها عززت روابطها الاقتصادية مع الصين في السنوات الأخيرة، ولهذا السبب، من الضروري أن تقوي واشنطن علاقتها مع دكا لكسب المنافع التي لا تقتصر على جرّ بنغلادش إلى المعسكر المعادي للصين.بدأت الصين تتقرّب من بنغلادش كجزءٍ من استراتيجية منهجية تهدف إلى توسيع النفوذ الصيني العالمي، إذ تستعمل الصين البنية التحتية ودبلوماسية اللقاحات في زمن كورونا لتوسيع نفوذها في دول جنوب آسيا، بما في ذلك بنغلادش، وهذا ما جعل بعض المحللين يخشون أن يصبح البلد قريباً جزءاً من المحور الصيني بعد دول متعددة من جنوب آسيا مثل سريلانكا وباكستان ونيبال.من الواضح أن تكثيف التواصل بين بنغلادش والصين يثير قلق الهند، إذ تريد الهند، بصفتها أكبر وأقوى لاعبة في جنوب آسيا، أن تبقي المنطقة كلها في نطاق نفوذها، ونظراً إلى عدائيتها القديمة تجاه باكستان وتعدّد المؤشرات التي تثبت اليوم تقرّب سريلانكا ونيبال من بكين، تخشى نيودلهي أن تحذو بنغلادش حذوهما مع أنها شريكتها الإقليمية التقليدية.
لهذا السبب، استعملت الهند مجموعة متنوعة من الأدوات للتصدي للنفوذ الصيني والحفاظ على هيمنتها في المنطقة، بدءاً من الحوافز الاقتصادية وصولاً إلى الدبلوماسية العامة، وفي عام 2017 مثلاً، أعلنت الهند تقديم قروض بقيمة 5 مليارات دولار إلى بنغلادش، وهي أكبر مساهمة هندية للبلد على الإطلاق، بعد إقدام دكا على الانتساب إلى "مبادرة الحزام والطريق" الصينية وتعهد بكين بمنحها مساعدات بقيمة 24 مليار دولار. وفي الفترة الأخيرة، قبل تجدّد موجة الوباء في الهند خلال الربيع الماضي، حاولت الهند زيادة كمية اللقاحات التي تقدّمها إلى بنغلادش بعد فترة قصيرة على تلقيها كمامات من بكين. (اضطرت الهند لاحقاً لتعليق التزاماتها المرتبطة بتأمين اللقاحات بسبب حاجتها العاجلة إليها محلياً).نتيجةً لذلك، تجازف دكا بالتورط في لعبة شد الحبال بين الصين والهند لكسب النفوذ الإقليمي، وقد تجنّبت بنغلادش هذا الفخ حتى الآن عبر الحفاظ على علاقة متوازنة مع البلدَين معاً، فشدّدت على روابطها السياسية والثقافية مع الهند وعلاقاتها الاقتصادية مع الصين.لكن بنغلادش تحاول في الوقت نفسه توسيع هذا التوازن كي يشمل الوضع الجيوسياسي أيضاً، وفي وقتٍ سابق من هذه السنة، أعلن جوهر رضوي، مستشار الشؤون الدولية لرئيسة وزراء بنغلادش الشيخة حسينة واجد، أن بنغلادش هي جزء من "مبادرة الحزام والطريق"، لكنها تريد أيضاً أن تكون جزءاً من "العلاقات في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ"، في إشارة واضحة إلى السياسة الأميركية الإقليمية التي تهدف إلى التصدي للصين وتدعمها نيودلهي بقوة، ومن المتوقع أن تجد بنغلادش صعوبة متزايدة في الحفاظ على هذا التوازن في ظل تصاعد التوتر بين القوى العظمى في المنطقة، لا سيما إذا تدهورت العلاقات بين بكين ونيودلهي.لكن قد تجد دكا نفسها أقرب إلى بكين قريباً، ويبدو أن الحكومة الراهنة بدأت تتجه إلى الاستبداد، وقد اتّضحت هذه النزعة في حملاتها القمعية القوية ضد المعارضة السياسية وكبحها المتواصل لأي شكل من الاعتراض، وقد اعتبر المراقبون الدوليون الانتخابات الأخيرة في بنغلادش غير حرة ونزيهة، وإذا صدر الحُكم نفسه على الانتخابات المقبلة في عام 2023، قد تصبح دكا معزولة عن الغرب، مع أن نفوذها الاقتصادي العالمي قد يحول دون تحوّلها إلى دولة منبوذة بالكامل، وفي ظل تسارع ابتعاد البلد عن محور الغرب، قد تضطر بنغلادش في نهاية المطاف لزيادة اتكالها على بكين لتلقي الدعم للنظام القائم والصمود اقتصادياً.لكن لا تتعلق دوافع بنغلادش بإعجابها المتزايد بالصين بل بتقييمها للوقائع الجيوسياسية في جنوب آسيا واستيائها القديم من الهند. لا يريد جزء كبير من سكان بنغلادش أن يتبنى بلدهم النظام الاستبدادي على الطريقة الصينية، فقد تعجبهم النجاحات الاقتصادية التي حققتها الصين، لكنهم لا يحبذون الشيوعية، وقد تستسلم دكا لميولها القمعية إذاً، لكنها تفضّل قيمها الديموقراطية على الاستبداد. في غضون ذلك، واجهت علاقة نيودلهي الودية مع دكا مطبات عدة في عهد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وقد يتعلق السبب جزئياً بأجندة مودي الهندوسية القومية والسياسة الخارجية العدائية التي يطبّقها في المنطقة، فقد أثارت نيودلهي مثلاً استياء دكا حين مررت قانوناً في عام 2019 لتسريع منح الجنسية الهندية إلى الأقليات الدينية المضطهدة وغير المسلمة التي تهرب من الدول المجاورة.تعارض دكا هذا القانون على اعتبار أنه يرتكز على الفرضية القائلة إن بنغلادش تضطهد الأقليات الدينية، وأنه سيدفع الهند إلى طرد المهاجرين المسلمين البنغال وإعادتهم إلى بنغلادش، فقد كانت انتقادات دكا العلنية مُخففة، لكنها وجّهت رسالة قوية حين ألغت سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى مع الهند بعد وضع اللمسات الأخيرة على القانون في عام 2019. في المقابل، سرّعت الصين إيقاع "مبادرة الحزام والطريق"، فجعلت مشروعها جزءاً محورياً من جنوب آسيا، بما في ذلك بنغلادش، فهي تجد في هذا البلد طرفاً حريصاً على تأمين استثمارات جديدة في مجال البنية التحتية (إنها حاجة كبرى في ظل تسارع النمو الاقتصادي ومشاريع توسيع المدن). على غرار عدد كبير من الدول التي تشمل استثمارات مشتقة من "مبادرة الحزام والطريق"، تنجذب بنغلادش إلى قدرة بكين على استعمال كميات كبيرة من الرساميل سريعاً مقابل شروط قليلة نسبياً، إذ لا تستطيع نيودلهي، ولا حتى واشنطن، أن تقوم بالمثل.احتفظت إدارة بايدن بعناصر عدة من سياسة ترامب في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، بما في ذلك البحث عن مشاريع البنى التحتية واستثمارات أخرى للتصدي للصين ومشروعها، وفي هذا السياق، قد تستفيد واشنطن فعلاً من استثمار الرساميل الاستراتيجية الأميركية في بنغلادش.لنفكر مثلاً بموقع بنغلادش الاستراتيجي في خليج البنغال، ونموها الاقتصادي القوي، ومكانتها كدولة معتدلة نسبياً وذات أغلبية مسلمة فيها 165 مليون نسمة، حتى أنها كانت لاعبة عالمية أساسية في جهود مكافحة التطرف والتغير المناخي، ولا ننسى طبعاً أن تكثيف التواصل مع دكا قد يمنع البلد من الانحياز بالكامل إلى المعسكر الصيني.لتحقيق هذا الهدف، تقضي طريقة عملية بتلبية حاجتَين أساسيتَين: البنية التحتية، والمعدات العسكرية، وينجم ميل بنغلادش إلى بكين في الفترة الأخيرة عن عوامل اقتصادية محضة، إذ تستطيع إدارة بايدن أن تبني علاقة أكثر قوة واستدامة بين الولايات المتحدة وبنغلادش من خلال القيام باستثمارات إضافية في ذلك البلد، وتكثيف التعاون الأمني مع دكا، والأهم من ذلك هو التعبير عن اهتمام صادق بدور البلد كلاعب استراتيجي مؤثر. لكن تبرز عوائق معينة أمام هذه الخطوات طبعاً، وتحاول واشنطن تعزيز قدرتها على تقديم مساعدات خارجية في مجال البنية التحتية عبر أدوات جديدة مثل "شركة تمويل التنمية الدولية" و"شبكة النقطة الزرقاء"، فضلاً عن مشروع البنى التحتية العالمي الجديد الذي أطلقته مجموعة السبع تحت اسم "إعادة بناء عالم أفضل"، لكنها تعجز عن التعامل مع قدرة بكين على تأمين كميات كبيرة وسريعة من مساعدات البنى التحتية، كذلك، يعني تشديد إدارة بايدن على نشر الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان أن واشنطن قد تتردد في التقرب من بنغلادش بدرجة مفرطة.تعتبر واشنطن العامل الاستراتيجي أساسياً لتعميق التواصل الثنائي، لكن يجب أن تبقى الدبلوماسية الأميركية حذرة، ويُفترض أن تتنبّه واشنطن إلى النقاط الحساسة في بنغلادش، ونظراً إلى الاضطرابات الأخيرة مع الهند ورغبة دكا في طرح نفسها كلاعبة استراتيجية بحد ذاتها، لن تتجاوب بنغلادش بالشكل المطلوب إذا تابعت السياسة الأميركية التعامل معها عن طريق نيودلهي.إذا لاحظت بنغلادش أن الولايات المتحدة واليابان وأستراليا تعطي أهمية مفرطة للهند عند تقييم الاعتبارات السياسية الخاصة بمنطقة جنوب آسيا، فقد تتضخم مخاوف دكا بشأن الهند نتيجة أفكارٍ مفادها أن أقوى بلد في المنطقة يشارك في تحركات إقليمية عدائية. وفق هذا السيناريو، ستتردد بنغلادش في التقرب من الولايات المتحدة.قد ترغب دكا في استعمال روابطها المتزايدة مع الولايات المتحدة كورقة ضغط لتحسين شروط العلاقة التي تجمع بنغلادش والهند، لكن إذا أرادت الولايات المتحدة أن تضغط على بنغلادش لدعم التحالف الرباعي من دون أن تراعي مخاوفها بشأن نيودلهي، فقد تفضّل دكا التقرب من بكين للتصدي للهند، وعندما أصدر المبعوث الصيني في دكا تحذيره حول انضمام بنغلادش إلى التحالف الرباعي، ربما أراد بذلك أن يستغل مخاوف بنغلادش.للتقرب من بنغلادش، تقضي أفضل مقاربة أميركية باعتبار تحسّن العلاقات بين البلدين تطوراً إيجابياً بحد ذاته وخطوة منطقية في المرحلة المقبلة نظراً إلى تقدّم بنغلادش الاقتصادي، وفي المقابل، سيرتكب الأميركيون خطأً كبيراً إذا حاولوا جرّ البلد إلى المعسكر المعادي للصين، إذ تجازف هذه الخطوة بإبعاد بكين، شريكة بنغلادش الاقتصادية الأساسية، تزامناً مع حرمان دكا من النفوذ الذي تملكه في نيودلهي.في نهاية المطاف، ستكون سياسة بنغلادش الخارجية الأساسية مشابهة لسياسة الهند: لا تريد دكا الانحياز إلى أي طرف، بل تفضّل تنويع التزاماتها تجاه أطراف متعددة لتعزيز قدرتها على التحرك بطريقة مستقلة وبشروطها الخاصة. إذا أدرك الأميركيون وشركاؤهم في التحالف الرباعي هذا الواقع البسيط، فستزيد فرص نجاحهم في تقوية العلاقات مع دكا وتحقيق أهدافهم الكبرى في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.* آنو أنور ومايكل كوغلمان