عاش الأميركيون عقودا، وربما قرونا، ينظرون إلى الحرب باعتبارها «شيئا يحدث هناك» في الدول الأخرى، حتى لو كانت بلادهم هي التي تخوض هذه الحرب. لكن يبدو أنه على الأميركيين الاستعداد لمواجهة الحرب باعتبارها «شيئا يحدث هنا» على أرضهم، بحسب أستاذ كرسي هنري كيسنغر للشؤون العالمية في مدرسة جونز هوبنكز للدراسات الدولية المتقدمة الأميركية، هال براندز.

ويقول براندز، في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، إن الأراضي الأميركية لن تكون مقدسة في أي صراعات مستقبلية. فالولايات المتحدة دخلت عصرا تتعرض فيه أراضيها للخطر نتيجة التطور التكنولوجي الذي جعل في مقدور أعدائها الجيوسياسيين، وليس فقط الجماعات الإرهابية، نقل الحرب إلى أراضي أميركا نفسها.

Ad

مزيج من القوة والجغرافيا

بالطبع تعرّضت الولايات المتحدة لهجمات من قبل، فالبريطانيون أحرقوا واشنطن خلال حرب 1812، واليابانيون ضربوا هاواي ثم الأراضي الأميركية نفسها عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية، وتنظيم القاعدة هاجم نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا في 11 سبتمبر 2001. لكن هذه الهجمات تعتبر استثنائية في تاريخ الولايات المتحدة التي ساعد مزيج من عوامل القوة والجغرافيا في جعل أراضيها أكثر تأمينا من أي دولة كبرى أخرى.

خطر «النووي» يرتفع

ومنذ الحرب الباردة واجهت الولايات المتحدة هجمات الإرهابيين، لكنّ الدول التي ضربتها أميركا وبخاصة العراق وصربيا، لم تكن لديها أي قدرة على مهاجمة أراضيها. وهذا الأمر تغيّر الآن بأكثر من طريقة.

أولا، عدد الدول المعادية القادرة على تهديد الولايات المتحدة بأسلحة نووية في أي صراع ازداد. الصين التي امتلكت تقليديا ترسانة نووية صغيرة وعرضة للخطر، تعزز هذه الترسانة الآن بسرعة. فبكين ترغب في ضمان القدرة على ضرب الولايات المتحدة في أي صراع يتعلق بتايوان أو نقطة ساخنة أخرى.

وكوريا الشمالية على حافة امتلاك، وربما تكون قد امتلكت بالفعل صواريخ نووية قادرة على الوصول إلى الأراضي الأميركية. وربما يظل لدى خصوم واشنطن دوافع قوية لعدم مهاجمتها بمثل هذه الأسلحة، على الأقل لتجنب أي رد نووي أميركي مدمر. لكن اليوم يختلف عن سنوات الحرب الباردة، حيث يمكن لهذه الدول حاليا ضرب الأراضي الأميركية بطرق أقل خطورة وأكثر جدوى بالنسبة لها.

أسراب من «الدرون»

وتمتلك روسيا والصين أو تطوران قدرات على ضرب أهداف أميركية برؤوس تقليدية محمولة على صواريخ طويلة المدى، سواء صواريخ كروز أو صواريخ باليستية عابرة للقارات، أو مركبات انزلاقية أسرع من الصوت. وهناك قلق متزايد من قدرة الصين على استخدام أسراب من الطائرات المسيّرة الصغيرة التي يتم إطلاقها من سفن الحاويات لضرب أهداف على الساحل الغربي للولايات المتحدة أو جزيرة.

ورغم أن مثل هذه الهجمات لن تؤدي إلى دمار كارثي، فإنها ستؤدي إلى اضطراب حركة الإمداد والتموين والاتصالات، وربما القدرة على التعبئة وحشد القوات خلال أي صراع، وربما تعطي ببساطة موسكو أو بكين وسيلة للردع أو الانتقام من الولايات المتحدة في حال مهاجمة أي أراض روسية أو صينية.

هجمات سيبرانية

ويرى براندز، الزميل الأول وخبير السياسة الخارجية الأميركية والاستراتيجية والدفاع في معهد أمريكان إنتربرايز، أن الشكل الأكثر احتمالا للهجوم على الأراضي الأميركية لن يتضمن عنفا على الإطلاق، وإنما سيكون في صورة هجمات إلكترونية تستهدف أنظمة البنية التحتية، أو شبكات الخدمات المالية الحيوية، التي يمكن أن تؤدي إلى اضطراب الحياة اليومية، وتقلص قدرة الإدارة الأميركية على الرد على الهجوم.

وكان الهجوم السيبراني على خط أنابيب نفط كولونيال بايب لاين الأميركي للحصول على فدية مالية والذي أدى إلى نقص حاد في إمدادات الطاقة على الساحل الشرقي الأميركي نموذجا لمثل هذه الهجمات.

ويمكن تخيل حجم الضرر والخسائر التي يمكن أن تنجم عن هجوم أوسع نطاقا من هذا النوع، في إطار تصاعد أزمة دولية بشأن تايوان أو أوكرانيا أو دول البلطيق. ومثل هذه الهجمات الإلكترونية ستكون فكرة جذابة بالنسبة لمخططي الحروب الروس والصينيين. ويمكن إحاطة هذه الهجمات بنطاق من الغموض، وهو ما لا يمكن عمله في حال توجيه ضربات عسكرية مباشرة.

كما أن هذه الهجمات الإلكترونية ستؤدي إلى اضطرابات داخلية كبيرة، دون إيقاع أعداد كبيرة من القتلى المدنيين، وتأخير الرد الأميركي في بداية أي صراع، عندما تريد موسكو أو بكين تحقيق أهدافها العسكرية في أوروبا الشرقية أو غرب المحيط الهادئ. كما يمكن أن تفرض هذه الهجمات أسئلة صعبة على صناع القرار في الولايات المتحدة مثل: هل ترغب واشنطن في استخدام القوة لوقف عدوان يحدث بعيدا جدا؟ وإذا فعلت ذلك، فهل يمكن أن تتعرض لخسائر مؤلمة على أراضيها؟

وبحسب براندز، فإنه لا يوجد لدى الولايات المتحدة حل مثالي لهذه المعضلة. فأنظمة الدفاع الصاروخي على سبيل المثال يمكن أن تساعد في حماية أهداف رئيسية، لكنها بالغة التكلفة، ولا يمكن الاعتماد عليها لتوفير الحماية الشاملة. وأقصى ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة، هو تخفيف حدة نقاط الضعف في الأمن الداخلي من خلال مزيج من القدرات الدفاعية والهجومية والمرونة.

وهذا يحتاج إلى ضخ استثمارات ضخمة وأكثر انتظاما فيما كان يطلق عليه اسم «الدفاع المدني» وتقوية البنية التحتية والمنشآت اللوجيستية، وشبكات الاتصالات للتصدي للهجمات الرقمية. وستحتاج واشنطن إلى تحسين دعايتها في وقت السلم لقدرتها ورغبتها في الرد الانتقامي على أي هجوم سيبراني ترعاه دولة. مثل هذه الدعاية ستجعل خصوم واشنطن، يفكرون في قدرة الولايات المتحدة على الرد على الهجمات الكبرى؛ سواء كانت فعلية أو رقمية في أوقات الحرب.

وفي ختام تحليله يقول براندز إنه في نهاية المطاف لا مفر من حقيقة أن الكلام عن وجود حماية مطلقة للأراضي الأميركية وهم. وعلى الأميركين تقبّل تزايد احتمالات تعرّض الأراضي الأميركية للهجمات، وتطوير مرونة اجتماعية واقتصادية مطلوبة لامتصاص مثل هذه الهجمات، وهو ما يمكن أن يكون على حساب نفوذ أميركا العالمي، في عالم لم تعد الجغرافيا تعطي فيه لأميركا حصانة ضد الهجمات.