باول ليس فولكر

نشر في 20-12-2021
آخر تحديث 20-12-2021 | 00:50
 بروجيكت سنديكيت أثناء شهادته التي أدلى بها أمام الكونغرس الأميركي في سبتمبر من عامنا هذا، كِدت أُشـفِـق على رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميركي جيروم باول عندما أعرب عن إحباطه إزاء الضغوط التضخمية التي تؤثر على الاقتصاد الأميركي، فعلى الجانب الإيجابي، أقر باول أخيراً بوجود تضخم قد يدوم أكثر من بضعة أشهر، لكنه مضى قائلاً إن السياسة النقدية التوسعية التي ينتهجها الاحتياطي الفدرالي لم تكن المسؤولة عن ارتفاع التضخم، فتلك السياسة تتضمن أسعار فائدة اسمية تقترب من الصِّـفر، وتوسيع ميزانية الاحتياطي الفدرالي العمومية إلى مستوى مذهل بلغ 8 تريليونات دولار، واستمرار شراء الأصول بمعدل شهري قدره 120 ملياراً، وإذا كان هناك ما يسمى سياسة نقدية عنيفة، فهذه هي بكل تأكيد.

يواصل باول إصراره على أن التضخم المرتفع اليوم يرجع كاملاً إلى الاختناقات المؤقتة ومشكلات سلاسل الإمداد الناجمة عن الركود الذي أحدثته الجائحة والتعافي المتفاوت اللاحق، ووفقاً لوجهة النظر هذه، يُـعَـد الاحتياطي الفدرالي مجرد وكيل سلبي يبذل قصارى جهده لتوفير القدر الكافي من السيولة حتى لا يؤدي التضخم على جانب العرض إلى تعطيل الأسواق المالية والاقتصاد في عموم الأمر.

يذكّرني تفسير باول للأحداث الجارية بوجهة نظر البنك المركزي الألماني في عام 1923، عندما كان يتعامل مع التضخم المفرط الذي ضرب ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، فوفقاً لبنك الرايخ (البنك المركزي الألماني حتى عام 1945)، كان التضخم ناشئاً عن نقص السلع المنسوب إلى الأجانب، الذين تسببت تعويضاتهم غير المعقولة في إحداث انخفاض حاد بقيمة المارك الألماني، وفي هذا السيناريو، كان بنك الرايخ وكيلاً سلبياً، يحاول بأقصى جهد ممكن طباعة العملة لمواكبة ارتفاع الأسعار، وكما هي الحال مع باول، أُلـقي اللوم عن التضخم على جهة أخرى- في هذه الحالة الأجانب- لا على سياسات البنك المركزي ذاته.

بالطبع، لم تكن رواية بنك الرايخ للوضع مغلوطة تماماً، نظراً لاعتماد الحكومة الألمانية والبنك المركزي على العائدات من رسوم سك العملة لسداد التعويضات، فمن الصحيح أن مدفوعات التعويضات تسببت في إحداث التوسع النقدي والتضخم الناتج عنه، لكن استعداد بنك الرايخ لطباعة النقود ظل يشكل جزءاً أساسياً من القصة.

على نحو مماثل، لم يكن بـاول مخطئاً تماماً عندما عزا التضخم جزئياً إلى ارتباكات العرض، لكن استعداد بنك الاحتياطي الفدرالي لاستيعاب هذه العملية من خلال التوسع النقدي- عوضاً عن مكافحة التضخم عن طريق رفع أسعار الفائدة وبيع الأصول- يظل يشكل عاملاً حاسماً.

في كل الأحوال، إذا كانت ارتباكات العرض هي القصة الرئيسة خلال الفترة من 2020 إلى 2021، فلابد أنها أعاقت بشكل خطير أيضاً تعافي الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (المعدل حسب التضخم)، ومع ذلك، بحلول الربع الثاني والربع الثالث (التقديري) من عام 2021، كان التعافي الحاد على شكل حرف V منذ الربع الثالث من عام 2020 أعاد بالفعل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الولايات المتحدة إلى مستواه المعدل حسب الاتجاه العام في 2019.

كان نمط التعافي على شكل حرف V متوقعاً، خصوصاً أن الركود في النصف الأول من عام 2020 كان في الأساس اختياراً طوعياً لإغلاق قسم كبير من الاقتصاد في الاستجابة لانتشار جائحة كورونا، وبمجرد رفع هذا الإغلاق بشكل كبير، كان من المعقول أن نتوقع عودة الاقتصاد بسرعة إلى مستواه السابق، علاوة على ذلك، من غير الواضح ما إذا كان هذا التعافي السريع راجعاً بشكل كبير إلى السياسة النقدية التوسعية أو السياسة المالية القوية المصاحبة.

وفيما يتعلق بالسياسة المالية، كانت إضافة تريليونات الدولارات من الإنفاق الفدرالي والدين العام مذهلة، وربما ساعدت أجزاء من هذه السياسة في التعجيل بالتعافي، وخصوصاً إعانات الدعم التي ساعدت في الحفاظ على الروابط بين العمال والشركات، لكن المدفوعات المفرطة للعاطلين عن العمل أعاقت في الأرجح انتعاش تشغيل العمالة.

من منظور النمو الاقتصادي الطويل الأجل، ربما يكون من المنطقي الاستعانة بحزمة جيدة التصميم من الاستثمار في البنية الأساسية، ومع ذلك، تُسـتَخـدم الأعذار المرتبطة بالجائحة لزيادة الإنفاق من الدولارات الفدرالية على نحو متزايد لا لمساعدة التعافي أو النمو في الأمد البعيد، بل لدعم أحلام الاشتراكية في دولة رفاهية دائمة التوسع.

وبلغت هذه الرؤية ذروة تمجيدها مع أجندة الرئيس جو بايدن لإعادة البناء بشكل أفضل، والتي تتضمن أربعة برامج استحقاق جديدة. بصراحة، لم أدرك أن المشكلة في سياسات الولايات المتحدة هي نقص برامج الاستحقاق، فمازلت أتذكر إعلان الرئيس بيِل كلينتون في عام 1996 أن «عصر الحكومة الضخمة ولّى وانتهى»، تُرى أين نجد كلينتون عندما نكون في احتياج إليه؟

أخشى أن التحول نحو قطاع عام موسع على نحو دائم من شأنه أن يؤدي إلى إعاقة التقدم الاقتصادي في الولايات المتحدة في السنوات القادمة، ومن بعض الجوانب، يبدو الأمر كأننا نحاكي الأجندة الاشتراكية التي تنتهجها أوروبا الغربية، غير أن فارقاً وحيداً مهماً يتمثل في أن جزءاً كبيراً من عائدات الضرائب في أوروبا تأتي من ضريبة القيمة المضافة.

مع الافتقار إلى ضريبة الاستهلاك الفعالة نسبياً كهذه، من المرجح أن تعتمد الولايات المتحدة بشكل متزايد على ضرائب غير فعالة على رأس المال (ضرائب على أرباح الشركات، ومكاسب رأس المال، والأصول، والثروة الإجمالية، وما إلى ذلك). سنشهد أيضاً المزيد من التأكيد على التدرج الأكثر حدة لجداول الضرائب على الدخل الشخصي، والذي كما فهمه الرئيس رونالد ريغان في ثمانينيات القرن العشرين يعني ضمناً معدلات هامشية عالية إلى حد يجعلها غير فعالة على الدخل الفردي المرتفع.

وبالعودة إلى توقعات الأسعار، في سبتمبر 2021، كان متوسط معدل تضخم أسعار المستهلك لمدة 12 شهراً %5.4 (بناء على مؤشر أسعار المستهلك الرئيسي). يكاد يكون من المؤكد أن مقياس التضخم هذا، الشبيه بمقاييس أخرى معيارية، سيرتفع مع انخفاض الأرقام المنخفضة المسجلة في الفترة من أكتوبر إلى ديسمبر 2020 عن المتوسط، والواقع أن متوسط معدل تضخم مؤشر أسعار المستهلك على أساس سنوي كان %6.9 خلال الفترة من يناير إلى سبتمبر 2021.

وفي هذا السياق، من العلامات المقلقة بشكل خاص تحرك بايدن لإلقاء اللوم بشأن ارتفاع الأسعار على شركات النفط الجشعة وغيرها من الشركات الضخمة، وفي خطاب ألقاه في 16 سبتمبر أعلن بايدن: «نحن نلاحق الأطراف الشريرة والمتربحين من الجوائح في مجتمعنا، وتؤكد أدلة وفيرة أن أسعار البنزين يجب أن تتجه إلى الانخفاض، لكنها لم تنخفض، وسنلقي نظرة فاحصة على هذا الأمر». استخدم الرئيس ريتشارد نيكسون ذات النوع من الخطاب في سبعينيات القرن العشرين، قبل أن يفرض القيود على الأسعار والتي استمرت في إلحاق أضرار اقتصادية أعظم من تلك الناجمة عن التضخم الطليق.

وأدى الاشمئزاز من تلك الحقبة السابقة من التضخم في النهاية إلى القرار الذي اتخذه الرئيس جيمي كارتر، في أزهى أوقاته، بتعيين بول فولكر رئيساً لمجلس الاحتياطي الفدرالي عام 1979، إذ لم يُنظَـر إلى فولكر على الفور على أنه بطل عندما وافق على أن إنهاء التضخم المرتفع في أوائل الثمانينيات (في عهد ريغان آنذاك) قد يترتب عليه ركود حاد، لكن بمرور الوقت، تنامت مكانته بين المشهورين بعدما أثبتت مهارته في ترويض التضخم أنها دائمة.

الآن يواجه باول خطر اكتساب السمعة النقيض، حتى الآن، أفلت من قدر كبير من الانتقادات الشخصية، ولكن إذا أصبح التضخم المرتفع متوقعاً بشكل عام فترسخ بالتالي، فسيُلام عن ذلك على نحو متزايد، وقبل أن نصل إلى هذه النقطة، يجب أن يتحول باول نحو سياسة نقدية انكماشية شبيهة بسياسة فولكر تكبح التضخم قبل فوات الأوان، وما يقلقني حقاً، وأعيد هنا صياغة كلمات ألقاها السناتور لويد بنتستن في مناظرة على منصب نائب الرئيس في عام 1988، هو أن المرء يستطيع بشكل مشروع أن ينظر إلى باول بثقة ويقول: «أنت لست بول فولكر».

* أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، وباحث زائر في المعهد الأميركي لأبحاث السياسة العامة، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

«بروجيكت سنديكيت، 2021» بالاتفاق مع «الجريدة»

روبرت جيه. بارو

back to top