تنطوي قصة عيد الميلاد كما تُروى في الغرب على عناصر خالدة شكلت ثقافتنا كثيراً، والقصة، كما نرويها عاماً بعد عام، تنقل إلى المستمعين صوراً قوية تثير مشاعر عميقة، وأود التريث لحظة لتأمل هذه القصة وفحص الحقائق المعاصرة عبر منظورها، فقبل ألفي عام كانت فلسطين خاضعة لاحتلال قاس، لكن على نحو من الأنحاء، كانت الظروف تسمح، في ذاك الزمن البعيد، لسكان فلسطين المحتلة بقدر أكبر من حرية الحركة عما يتمتع به السكان الحاليون لتلك الأرض. وحالياً، لا يستطيع أي فلسطيني من بيت لحم أن ينتقل إلى الناصرة، واحتلال الضفة الغربية وإغلاقها يجعل مثل هذه الحركة مستحيلة، علاوة على ذلك، تحظر القوانين الإسرائيلية على أي عربي من الناصرة الزواج من بيت لحم وإحضار زوجه عبر الخط الأخضر للعيش معاً في إسرائيل. صحيح أن آلاف الفلسطينيين- مسلمين ومسيحيين- المقيمين في بيت لحم يمكنهم رؤية القدس من منازلهم، لكن لا يمكنهم الذهاب إلى الحرم القدسي لأداء الصلاة هناك، كما لا يستطيع المسيحيون العرب المقيمون في القدس الذهاب، في يسر، لحضور قداس عيد الميلاد في بيت لحم مع غيرهم من المسيحيين في هذه المناسبة.
وكانت بيت لحم القديمة مكتظة وخاضعة لحصار، واليوم أيضاً، المدينة مختنقة وتطوقها مستوطنات صادرت أراضي الأجداد في البلدة لإفساح المجال لجدار يبلغ ارتفاعه 30 قدماً، وهناك مستوطنات سكنية ضخمة مقتصرة على اليهود، مما أدى إلى عزل السكان العرب عن القدس المجاورة، وأجبر تقييد النمو وانعدام الفرص الاقتصادية سكان بيت لحم على الفرار بحثاً عن فرص العمل والحرية، ويعيش الآن عشرات الآلاف منهم وأحفادهم في الأميركتين، ولا يستطيعون زيارة بيت لحم، عند عودتهم، إلا بصعوبة، ولا تسمح لهم سلطات الاحتلال بالحصول على إقامة دائمة في بلدتهم الأصلية. وتروي لنا قصص الكريسماس، أن الملوك القدامى استطاعوا قطع سفر طويل حاملين هدايا لتكريم المولود الجديد، ولا يسع المرء إلا أن يتخيل الصعوبات التي سيواجهونها اليوم في التعامل مع استجواب الجنود الإسرائيليين لهم عند جسر آللنبي. ومع تأملي في ذكرى ميلاد المسيح، لا يسعني إلا التفكير في 400 طفل تقريباً يولدون اليوم لأبوين فلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وأفكر في عدد أولئك الذين يموت منهم أثناء الولادة بسبب الخدمات الطبية غير الكافية، كما أن حياة بعض الأطفال تصبح في خطر عند نقاط التفتيش لأن الجنود الإسرائيليين لا يسمحون لأمهاتهم اللائي على وشك الولادة بالمرور. وتخبرنا القصص أن فرح السيدة مريم بميلاد المسيح ألجمته الرؤيا، فقد علمت أن طفلها سيكبر ويكابد آلاماً شديدة، وبالمثل، الفرح الذي يشعر به الآباء الفلسطينيون حين يستقبلون أطفالهم الجدد هذه الأيام يقترن بلا شك بمخاوف مماثلة، فهم لا يحملون هموم كيفية إعالة الطفل الجديد فحسب، بل يعايشون مخاوف نشأة ابن أو ابنة في ظل احتلال مع ما ينطوي عليه من مخاطر ومصاعب. إن الفرح في أكثر المناسبات مسرة ويمناً يعكر صفوه العنف والضغوط والإهانات التي يواجهها الفلسطينيون يومياً في الضفة الغربية على أيدي المستوطنين، ويذهب ببهجته الفقرُ المدقع واليأس الذي يواجهه المحاصرون في غزة.* رئيس المعهد الأميركي العربي في واشنطن.
مقالات
فلسطين... والكريسماس المحاصر
22-12-2021