الكرملين ومنطق التهديدات والغموض الاستراتيجي
أثار مؤتمر الفيديو بين الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 7 ديسمبر تساؤلات عدة، فقد امتنع الطرفان عن كشف تفاصيل كثيرة حول ذلك اللقاء، وأكدت البيانات الرسمية بعد الاجتماع المواقف المعروفة سابقاً، فاستنتج المراقبون أن المحادثات لم تُحقق أي اختراق حقيقي، لكن طرحت بيانات منفصلة لمسؤولين أميركيين وروس، إلى جانب التغطية الإعلامية الواسعة، بعض التلميحات المفيدة حول محتوى تلك المحادثات وسهّلت فهم المنطق الكامن وراء الحشد العسكري الروسي الأخير بالقرب من الحدود الأوكرانية.ذكرت وسائل الإعلام الروسية ومصادر الخبراء فكرة مفادها أن أوكرانيا تطرح مخاطر كبرى على روسيا لكنها أقل أهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، على عكس الصين مثلاً، واستُعمِلت هذه الفكرة للتأكيد على جاهزية روسيا للجوء إلى القوة العسكرية، لكنها تثبت في الوقت نفسه أن موسكو لا تصدّق استعداد الغرب لتحمّل تكاليف باهظة لردع روسيا، وأدت الرسائل المتضاربة التي وجّهتها روسيا حول احتمال تنفيذ غزو عسكري ضد أوكرانيا وتلك المرتبطة بتقبّل التكاليف العالية إلى نشوء شكلٍ من الغموض الاستراتيجي حول نوايا روسيا، ونظراً إلى اقتناع الكرملين بحرص الغرب على تجنب المخاطر، كان نشر هذا الغموض الاستراتيجي عملاً متعمداً.كذلك، تطرح المقارنة بين البيانات الأميركية والروسية حول تلك المحادثات أدلة مفيدة، حيث يزعم الكرملين أن الرئيسَين اتفقا على وضع صيغة معينة للنقاش للتطرق إلى مخاوف روسيا حول توسّع حلف الناتو شرقاً و"استغلاله" للأراضي الأوكرانية، وفي المقابل تتطرق نسخة البيت الأبيض إلى ضرورة منع تصعيد الوضع والعودة إلى الدبلوماسية واتفاق الرئيسَين على تكليف فِرَقهما بمتابعة هذا الموضوع، وفي تحوّل مفاجئ للأحداث، يبدو أن الجانب الروسي بات مستعداً للسماح بانضمام الولايات المتحدة إلى محادثات "صيغة النورماندي"، فقد كان المتحدث باسم الرئيس الروسي، ديمتري بيسكوف، قد أصرّ قبل مؤتمر الفيديو مباشرةً على اعتبار "صيغة النورماندي" كافية بحد ذاتها وأنكر وجود أي خطط لدعوة الولايات المتحدة للانضمام إليها، لكن تقبّلت وزارة الخارجية الروسية هذا الاحتمال بعد الاتصال بين الرئيسَين.
يتماشى هذا التغيّر الجذري في المواقف مع القناعة الروسية القائلة إن الولايات المتحدة تستطيع بكل بساطة أن تأمر أوكرانيا بتغيير سياستها، إذ كان رفض موسكو انضمام الولايات المتحدة إلى "صيغة النورماندي" يرتبط بقناعة مفادها أن روسيا تستطيع التأثير على ألمانيا وفرنسا أكثر من الولايات المتحدة، فقد يشير هذا التغيّر الجذري إذاً إلى اقتناع الكرملين الآن باستعداد الولايات المتحدة للتفكير بجزءٍ من مطالب روسيا ودفع أوكرانيا إلى تنفيذها.تسعى روسيا إلى تحقيق هدفَين أساسيَين: يتعلق الهدف الأول بفرض ضغوط غير مباشرة على أوكرانيا لمنعها من استعمال الطائرات الهجومية المسيّرة "بيرقدار تي بي 2" التي اشترتها من تركيا، ويضمن استعمال هذه الطائرات تفوّقاً عسكرياً كبيراً لأوكرانيا، مما يزيد مخاوف روسيا من احتمال أن تلجأ كييف إلى الحل العسكري في إقليم "دونباس"، وهذا الوضع قد يجبر روسيا على التدخل ولو بكلفة عالية، فعملياً، لا تريد روسيا أن تخسر سيطرتها على "دونباس" أو تضطر لمحاربة أوكرانيا بطريقة مباشرة، واتّضح الهدف الثاني عبر التصريحات العلنية، وهو يتعلق بدفع الغرب إلى إقناع أوكرانيا بالعودة إلى النسخة الروسية من اتفاقيات مينسك. سيكون التهديد بتنفيذ غزو عسكري روسي ضد أوكرانيا مجرّد أداة، ويبقى الهدف الأساسي مشابهاً للحملة التي أطلقت الحرب الروسية بالوكالة في "دونباس"، إذ لا تريد روسيا أن تسيطر على أوكرانيا عسكرياً بل سياسياً، ولهذا السبب قد يقع الغرب كله في فخ كبير إذا قرر التنازل والموافقة على النموذج الروسي لحل الصراع في "دونباس" مقابل تجنب الحرب ضد أوكرانيا، إنه أهم هدف تسعى إليه روسيا في الفترة الأخيرة عبر حشد قواتها العسكرية في محيط أوكرانيا وإطلاق التهديدات العسكرية وإنشاء شكلٍ من الغموض الاستراتيجي حول استعدادها للهجوم.