مع اقتراب عام 2021 من نهايته، يُضطر الاقتصاد العالمي إلى التكيف مع ظروف متغيرة إلى حد كبير، ولن تكون هذه العملية سريعة أو غير مؤلمة، إذ يواجه العالم ارتباكات كبرى ناجمة عن تعطل الصلات التجارية، وارتفاع أسعار الطاقة إلى عنان السماء، فضلاً عن أوجه سوء التوافق في أسواق العمل، وبينما أغلقت شركات عديدة في قطاع التجزئة متاجرها التقليدية، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة، حدث نقص كبير في مهندسي تكنولوجيا المعلومات وسائقي الشاحنات.

كانت أزمة فيروس كورونا سبباً في حدوث العديد من هذه التغيرات أو تسارعها، لكن من المؤكد أن العودة إلى الوضع المعتاد قبل الجائحة أمر غير وارد، وسوف تجلب الأزمة تغييراً عميقاً وطويل الأمد، وفي حين نتطلع إلى العام المقبل، يتعين علينا أن نعد العدة للتعامل مع ثلاثة تحديات رئيسة.

Ad

وأول هذه التحديات ارتفاع مخاطر الاقتصاد الكلي، فمن بين أكبر التساؤلات التي يتعين علينا أن نجيب عنها في الأشهر المقبلة ما إذا كنا ندخل حقبة جديدة من التضخم، وكيف يمكننا إدارة المستويات المرتفعة من الديون العامة والخاصة، فعلى مدار عام 2020، في العديد من الاقتصادات حيث يعمل البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، ارتفع الدَّين العام إلى مستويات غير مشهودة منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، وفي بعض البلدان، ارتفع الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة تاريخياً، وقد يُفضي الافتقار إلى الحيز المالي والنقدي- إلى جانب الحواجز التي تحول دون الوصول إلى اللقاحات والتداعيات السلبية الممتدة من الاقتصادات المتقدمة- إلى زيادة اتساع شُقة التباعد بين البلدان الناشئة والنامية.

كانت التدابير التي اتخذتها الحكومات الوطنية - من حشد التمويل لِحِزَم الدعم الاقتصادي إلى تنظيم حملات التطعيم الشاملة - لا غنى عنها في الاستجابة للجائحة، ولإنهاء الأزمة، ستكون الثقة ببرامج الصحة العامة، وبسلامة وفعالية لقاحات "كوفيد 19"، على القدر ذاته من أهمية اللقاحات نفسها.

مع ذلك، كي نتمكن من العودة إلى النمو المستدام والاستدامة المالية الطويلة الأجل، سيكون لزاماً علينا أن نطلق العنان لقوة ريادة الأعمال المنتجة. وهنا، يتعين على القطاع الخاص أن يضطلع بدور حاسم.

أما التحدي الثاني فيتعلق بالمناخ، إذ سلطت الجائحة الضوء على حساسية نظامنا الاقتصادي العالمي وسرعة تأثره، ولكن أيضاً قدرته على الصمود، ومن الممكن اعتبار هذا تذكرة صارخة بالمخاطر المتعاظمة التي تفرضها عوامل غير اقتصادية أحدثها تغير المناخ أو تسبب في مضاعفتها، ووفقاً لأحدث تقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، من المنتظر أن يؤدي الاحتباس الحراري الكوكبي إلى زيادة درجة حرارة الأرض بمقدار 1.5 درجة مئوية، أو أكثر، مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة، على مدار السنوات العشرين القادمة، وسيترتب على هذا عدد من العواقب، بما في ذلك تزايد وتيرة وشدة الأحوال الجوية القاسية- موجات الحرارة، والعواصف، والجفاف، وغير ذلك من الأحداث المدمرة- وزيادة طول المواسم الدافئة.

إن الانتقال إلى انبعاثات الصِفر الصافي ليس مجرد هدف مثالي؛ بل ضرورة، وكلما تمكنت البلدان من إدارة هذا التحول بسرعة أكبر، ظلت أكثر قدرة على المنافسة، وتضاءلت الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية التي ستشهدها.

ولتحقيق هذه الغاية، يشكل حشد التمويل الخاص ضرورة أساسية، ووفقاً لاستراتيجيتنا الجديدة، يعمل البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية على مضاعفة موارد تمويل المناخ بحلول عام 2025؛ ونحن نتوقع أن تتضاعف الموارد الخاصة أيضاً.

علاوة على ذلك، سيمثل التمويل الأخضر أكثر من 50 في المئة من حجم أعمالنا السنوية بحلول عام 2025، وبدءاً من عام 2023، ستكون جميع عملياتنا متماشية مع الأهداف المنصوص عليها في اتفاقية باريس للمناخ.

في الكفاح ضد تغير المناخ، يتعين علينا أن نعتمد على آليات السوق التي أثبتت جدواها، مثل تسعير الكربون، ويجب أن تكون الأسواق جيدة التنظيم، لكن لا يجوز للهيئات التنظيمية أن تخنق قدرة القطاع الخاص على الإبداع أو شهيته للمجازفة، وعلى نحو مماثل، ينبغي لها أن تمتنع عن عرقلة الاستخدام الفَعّال للموارد، والذي يعود بالنفع على البيئة والنمو الاقتصادي، فالقطاع الخاص هو الذي يعرف كيف يعمل على توليد مكاسب الإنتاجية المطلوبة.

تقدم التطورات التكنولوجية الأمل في إحراز تقدم حقيقي نحو تلبية أهداف اتفاق باريس، لكن هذا التقدم لن يتأتى بلا ثمن، ولا ينبغي للتحول الأخضر أن يكرر أخطاء العقود الأخيرة، عندما تسببت العولمة التجارية والمالية في تخلف كثيرين عن الركب.

إن الاستجابة الفَعّالة للتحديات التي تواجه المجتمع بأكمله تتطلب مشاركة المجتمع بأسره، وكلما ازددنا تفتتاً وانقساماً، زادت صعوبة ابتكار وتنفيذ الحلول، ففي السنوات الأخيرة، رأينا العواقب السياسية المترتبة على اتساع فجوات التفاوت وتفاقم حالة الاستقطاب، والواقع أن الناخبين الذين يعجزون عن كسب العيش وإعالة أسرهم يدلون بأصواتهم وكأنه ليس لديهم ما يخسرون.

لن ينجح الانتقال الأخضر إلا إذا كان انتقالاً عادلاً، وعلى هذا فإن اتخاذ التدابير اللازمة لدعم أولئك الذين تضررت سبل معايشهم بشدة أثناء التحول يعتبر ضرورة أساسية، في الأمد القريب، يجب أن يكون الدعم المالي المباشر جزءاً من المعادلة، وفي الأمدين المتوسط والبعيد، يجب أن يكون توفير التعليم الجيد المستمر وفرص العمل المرغوبة، بصرف النظر عن الخلفية أو النوع الاجتماعي، على رأس الأولويات.

ويتمثل التحدي الثالث في الارتباك الرقمي، إذ يتطلب التحول الرقمي السريع في إدارة الاقتصاد نهجاً مماثلاً، فقد تسببت عمليات الإغلاق في الاستجابة للجائحة في تسريع اتجاهات لا رجعة فيها في العمل والاقتصاد في عموم الأمر، مثل قبول ترتيبات العمل من المنزل على نطاق واسع، وتبني الذكاء الاصطناعي على نطاق متزايد بشكل حاد واحتضان الخدمات المصرفية الإلكترونية الواسع الانتشار، والآن، يستخدم 96 في المئة في المتوسط من المستهلكين في الاقتصادات المتقدمة طرق الدفع الرقمية.

وقد بدأ للتو تحول القطاع المصرفي، وقطاع التجزئة، والعديد من القطاعات الأخرى، فعلى سبيل المثال، من المنتظر أن تقدم الشبكات والعدادات الذكية مساهمات كبيرة في تحسين استخدام الموارد النادرة، وستقوم عليها المدن الذكية في المستقبل.

إن ضمان تطور وتنفيذ الابتكارات التكنولوجية الواعدة على نحو مسؤول يتطلب إطاراً تنظيمياً قوياً وتنافسياً وشفافاً، كما يتطلب الوصول إلى خدمات التكنولوجيا على نطاق واسع، حيث تُظهِر الأدلة التي جمعها خبراء الاقتصاد في البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية أن أزمة "كوفيد 19" تسببت في اتساع الفجوة الرقمية، وهذه منطقة حيث من الممكن أن يتدخل مستثمر مثل البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، وهذا هو على وجه التحديد ما نعتزم القيام به.

ويفرض تصاعد التوترات الجيوسياسية وانتشار الشعبوية تحدياً خطيراً على النماذج الاقتصادية والقيم الأساسية التي تستند إليها الديمقراطية الغربية والتعددية، وعلى هذه الخلفية يتعين على المؤسسات المتعددة الأطراف أداء دور معادل في هذا الصدد.

تُظهِر الصعوبات الخطيرة والمستمرة، التي واجهت البلدان المنخفضة الدخل في محاولة الحصول على لقاحات "كوفيد 19" مدى صعوبة ضمان المساواة والإنصاف على مستوى عالمي، لكن التوصل إلى اتفاق هذا العام على حد أدنى عالمي لمعدل ضريبة الشركات دليل على أن التعددية قادرة على تحقيق النتائج، كما يساعد توفير السيولة بسرعة للبلدان المُكافِحة أثناء الجائحة في تسليط المزيد من الضوء على قوة التعددية، ووسط مستوى غير مسبوق من الاستثمارات بلغ 11 مليار يورو (12.7 مليار دولار) في عام 2020، كان البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية قادراً على تقديم مساهمة مهمة في هذا الصدد.

أظهرت الجائحة أيضاً أن مؤسسات التنمية المتعددة الأطراف التي تمتلك القدرة على دفع إصلاح السياسات، مثل البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية، بوسعها أن تساعد في خلق الظروف الملائمة لتعزيز استثمارات القطاع الخاص، وسيكون هذا أمراً بالغ الأهمية لإعادة الدينامية والنشاط إلى جهود التنمية بعد (كوفيد 19).

يتلخص الهدف المشترك بين جميع المؤسسات المتعددة الأطراف الآن في تحقيق النمو القوي والمستدام والشامل، وبالتعاون مع شركائنا، نعمل في البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية على تأمين مجرى النهر الاقتصادي، لكن السوق هو الذي سيشكل التيار الذي يدفع التعافي والتنمية.

*أوديل رينو باسو رئيسة البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية.

"بروجيكت سنديكيت، 2021" بالاتفاق مع "الجريدة"