حين تلوح الفوضى السياسية في أفق البلقان، يدعو الجميع في كل مرة إلى تكثيف التزامات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في هذه المنطقة، لكن حان الوقت للاعتراف بحقيقة مؤسفة: لا نفع على الأرجح من دعوة الاتحاد الأوروبي وواشنطن إلى تجديد استثماراتهما في جهود حفظ السلام وتأدية دور الوساطة لتطبيق إصلاحات سياسية كبرى في البلقان:

أولاً، لم تعد البلقان على رأس أولويات أوروبا والولايات المتحدة، مما يعني تراجع الموارد التي يُخصصها الطرفان لهذه المنطقة.

Ad

ثانياً، أصبح المنافسون على النفوذ الإقليمي، مثل روسيا والصين، أكثر نشاطاً وقوة من أي وقت مضى، مما يُصعّب على الاتحاد الأوروبي وواشنطن التحرك.

المسار المرتقب لا يترك مجالاً واسعاً للتفاؤل بحصول إنجازات كبرى، فبعد مرور ثلاثة عقود منذ اندلاع الحروب التي تلت تفكك يوغوسلافيا في هذه المنطقة، حان الوقت للاعتراف بحدود التدخلات الخارجية وجهود بناء الأوطان، فحين تسمح الظروف بعقد اتفاقيات معينة، من الضروري أن يفهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عواقب الخطابات الرنانة والتحركات الضعيفة، والأهم من ذلك هو أن يدرك الغرب مخاطر التواصل مع المنطقة انطلاقاً من المنافسة القائمة بين القوى العظمى حصراً، إذ تجازف هذه المقاربة بإضعاف التقدم الديموقراطي وقد تسيء في نهاية المطاف إلى المصالح الغربية في المنطقة.

أزمات قديمة ومعيار جديد

تواجه دول البلقان اليوم دوامة جديدة من انعدام الاستقرار، وتشمل أخطر نقاط الاشتعال مسائل عالقة منذ تفكك يوغوسلافيا، ففي سبتمبر الماضي، تجدّدت أعمال العنف في كوسوفو لأبسط الأسباب: لوحات ترخيص المركبات، وفرض الصرب العرقيون في شمال كوسوفو حصاراً على المنطقة رداً على سياسة تأمر السائقين الذين يدخلون إلى كوسوفو بمركبات تحمل لوحات ترخيص صربية باستبدالها بلوحات مؤقتة صادرة من جمهورية كوسوفو أو تغيير مسارهم.

باتجاه الشمال، هدّد زعيم صرب البوسنة، ميلوراد دوديك، حديثاً بإنهاء المشاركة الصربية في مؤسسات الدولة البوسنية، والأخطر من ذلك هو أن تشمل هذه العملية انسحاب قوات صرب البوسنة من الجيش الوطني الذي بُنِي بفضل المساعدات الدولية في آخر ربع قرن، مما يؤدي إلى نشوء قوة مؤلفة من صرب البوسنة حصراً، ونتيجةً لذلك، حذّر الممثل السامي في البوسنة والهرسك من غرق البلد في أعمال العنف قريباً.

رداً على هذه الأزمات، أرسل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وفوداً لتأدية دور الوساطة في المحادثات وعقد الاتفاقيات، إنها خطوة متوقعة، إذ يستطيع الطرفان فرض نفوذهما في منطقة البلقان حتى الآن أكثر من أماكن أخرى، لكنهما رفضا في مناسبات متكررة استعمال هذا النفوذ وفضّلا التعبير عن قلقهما من الوضع بطريقة مبتذلة وإطلاق دعوات فارغة إلى الحوار، وهي تحركات لا تؤثر في الوضع الميداني في شيء.

مع ظهور كل أزمة جديدة، يتّضح للجميع أن التزامات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم تعد تتماشى مع طبيعة العلاقات المتبدّلة بين الدول، وتتنافس البلدان اليوم على النفوذ في المنطقة، في حين تُضعِف القيود المحلية على جانبَي الأطلسي فرص تطبيق سياسة إقليمية أكثر طموحاً، ومن المستبعد أن تتغير أي واحدة من هاتين النزعتَين في المستقبل القريب أو على المدى المتوسط.

يجد الاتحاد الأوروبي صعوبة متزايدة في ردع الجهات التي تزعزع استقرار المنطقة أو تتحرك فور تدهور الوضع الأمني نظراً إلى تراجع قوته العسكرية، لكنّ وفرة العتاد العسكري لم تضاعف فاعلية التحركات الأميركية، ولا شك أن الزعماء الإقليميين باتوا أكثر ميلاً إلى سماع ما تقوله واشنطن، فلم يكن مفاجئاً إذاً أن يطلق انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن ردود أفعال تتراوح بين الترحيب الودّي بفوزه ومشاعر العدائية الاعتيادية، بحسب موقف كل معسكر من التدخلات الأميركية خلال التسعينيات، ويأمل الفريق الإقليمي الذي احتفل "بعودة" الولايات المتحدة إلى الساحة أن تسهم إدارة بايدن في كسر الجمود السياسي في دول المنطقة، وفي المقابل، يظن الفريق الذي عارض تلك التدخلات أن بايدن رمز لاستمرارية القوة الأميركية، لكن رغم اهتمام السلطة التشريعية والتنفيذية في الولايات المتحدة بالبلقان، لم تُعطِ واشنطن الأولوية لهذه المنطقة حتى الآن.

كل من يدعو الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى "التحرك" لمنع غرق البلقان في أعمال العنف يطرح عدداً من الاقتراحات التي تتراوح بين تكثيف التواصل الدبلوماسي، وتسريع الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ونشر القوات العسكرية، حيث يرتكز أفضل سيناريو محتمل برأيهم على القناعة القائلة إن تنسيق الجهود بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قد يوقف النزعات الأمنية السلبية ويعيد إحياء التطورات الديموقراطية الإيجابية.

نظرياً، تبدو هذه الاقتراحات كلها منطقية، لكن الوقائع الميدانية لا تدعو إلى التفاؤل، وفي أسوأ الأحوال قد يزيد التخبط السائد، إذ يصعب أن تفك الأطراف المعنية ارتباطها عن المنطقة بالكامل، لكنّ التمسك بالمقاربات نفسها سيُمعِن في إضعاف الوضع الأمني، وقد تصبح الظروف الميدانية مؤاتية لتبادل أعمال العنف.

عواقب المنافسة

خلال التدخلات التي حصلت في التسعينيات وفترة إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراعات في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان المعيار الأمني الطاغي يتمحور حول إدارة الأزمات، أما اليوم فبدأ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يغيّران لغة المنافسة الاستراتيجية، ونتيجةً لذلك يتم التعامل مع منطقة البلقان من هذا المنطلق، ويتكلم الطرفان على جانبَي الأطلسي في مناسبات متكررة الآن عن نفوذ روسيا والصين في المنطقة، ويعني ذلك أن الالتزامات الأوروبية والأميركية في المرحلة المقبلة لن ترتكز على الرغبة في فتح المجال أمام المنافسين بقدر ما تقوم على التزام بحل أعمق المشاكل التي تجتاح المنطقة، فتاريخياً، كانت معايير النفعية والبراغماتية بديلة عن القيم النبيلة في زمن المنافسة بين القوى العظمى.

بدأت المشاكل في معيار المنافسة الاستراتيجية تتّضح في قمة الديموقراطية المرتقبة من تنظيم بايدن، لا سيما إعطاء الأولوية للوضع الجيوسياسي بدل المبادئ لتحديد المدعوين، فقد ذكرت التقارير الأولية أن صربيا لن تشارك في القمة، على اعتبار أن البلد لم يعد يمثّل ديموقراطية ليبرالية في عهد الرئيس ألكسندر فوتشيتش، لكن هذا القرار تغيّر اليوم على ما يبدو، وسيكون إرسال دعوة لحضور القمة كفيلاً بمنح الشرعية للحكومة الصربية وإضعاف الدعم الغربي للديموقراطية في أكبر بلد من دول غرب البلقان الست.

على صعيد آخر، جدّدت المنافسة الجيوسياسية الاهتمام بفكرة "تعديل الحدود"، وبرأي المراقبين الخارجيين المستائين من غياب التقدم في المنطقة أو السياسيين القوميين الراغبين في تكرار "إنجازات نيكسون في الصين"، لطالما كانت إعادة رسم الحدود الوطنية على الأساس العرقي خياراً مغرياً، وبما أن المسائل الأساسية في اتفاق "دايتون" لا تزال عالقة ولم يكتمل الاعتراف بكوسوفو بعد، لا تكف النقاشات حول الانفصال والتقسيم والوحدوية عن التوسّع، وإذا اعتبر الغرب أن جهود بناء مجتمعات متعددة الانتماءات العرقية أصبحت عقيمة وفضّل التقرب من القادة الإقليميين القوميين المتطرفين سعياً لتحقيق مصالح جيوسياسية قصيرة الأمد، سيدفع سكان المنطقة ثمناً باهظاً.

لكن رغم التخلي عن حملة بناء الأوطان لخوض المنافسة الاستراتيجية، فشلت القوى الغربية في التنافس مع روسيا والصين بالشكل المناسب حين أصبح وضع دول المنطقة على المحك، واتضحت هذه الظروف خلال جلسة مجلس الأمن الأخيرة حول البوسنة والهرسك، إذ تدعو روسيا والصين منذ فترة إلى إلغاء دور الممثل الدولي الذي يشرف على تنفيذ الجوانب المدنية من اتفاق "دايتون" المبرم في عام 1995 والحد من مهام حفظ السلام، وبعد جدل محتدم حول هذا الموضوع، مدّد أحدث تصويت في مجلس الأمن تفويض قوة الاتحاد الأوروبي المؤلفة من 600 عنصر في البوسنة والهرسك لحفظ السلام، لكن لم يذكر نص القرار شيئاً عن مكتب الممثل السامي للحصول على دعم روسيا والصين، وقد تبدو هذه الصفقات بسيطة ظاهرياً، لكنها تشير فعلياً إلى تغيّر طبيعة استثمارات الغرب في المنطقة واستعداده للتضييق على المنافسين، ونتيجةً لذلك لا مفر من تلاشي شرعية مكتب الممثل السامي.

مفارقة الفوضى غير الكافية

بشكل عام، تعاني منطقة البلقان من مشكلة يمكن تسميتها "مفارقة الفوضى غير الكافية"، فقد أصبح المواطنون هناك رهينة للفساد المنهجي والسياسات القومية التي كبحت النمو الاقتصادي ومنعت إرساء الديموقراطية وسهّلت تدهور الظروف الأمنية، لكن لم تخسر المنطقة استقرارها بدرجة كافية بعد لأن تدخّل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مجدداً واستمرار جهودهما لمعالجة هذه المسائل مازال قائماً، فقد كان الاهتمام الذي حصلت عليه المنطقة سابقاً نتاج حقبة مختلفة، حيث اعتُبِر بناء الأوطان بمساعدة خارجية مساراً إيجابياً، نظرياً وعملياً، لكن لم تُحقق تلك الجهود النتائج المنشودة للأسف.

أفضل ما تستطيع العواصم الأوروبية وواشنطن فعله الآن هو التنبه إلى الوعود التي تطلقها وتقييم عواقب الصفقات التي تعقدها. نظراً إلى تغيّر المعيار الأمني السائد وطريقة إدارة العلاقات مع القوى الرجعية، من الضروري ألا يقع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الفخ من خلال المشاركة في حرب مزايدات مع منافسيهما الاستراتيجيين لاستمالة الدول الإقليمية، فعلى المدى الطويل، قد يكون إعطاء الأولوية للاستقرار والتكيّف مع القادة غير الليبراليين خوفاً من دفعهم إلى أحضان المنافسين كفيلاً بالقضاء على الحُكم الديموقراطي وتشويه سمعة الغرب ككل.

في نهاية المطاف، يمكن اعتبار الوضع القائم مؤشراً آخر على ضرورة أن يحصل أي تغيير سياسي إيجابي ودائم من داخل المنطقة، لكن هذا الأمل يبقى ضئيلاً للأسف.

*جورانا غرغيتش

War On The Rocks