العولمة وتهديدها الخفي
خسرت العولمة بريقها في الدول الغنية، لا سيما وسط العمال ذوي المهارات المتدنية، فبين عامي 2002 و2018 مثلاً، تراجع دعم التجارة الحرة بدرجة ملحوظة في اليابان والولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الأوروبية نتيجة زيادة العدائية تجاه التجارة الحرة وسط الطبقات الفقيرة والعاملة، وأدت المعارضة المتوسعة للتجارة الحرة إلى نشوء حركات شعبوية ناجحة تُركّز على الشؤون الداخلية، لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة.لكن ما سبب تراجع النزعة إلى دعم مظاهر العولمة والتجارة الحرة، حتى في الدول التي تُحقق أكبر المنافع منها؟ الجواب واضح: استفاد الموظفون من أصحاب المهارات العالية من العولمة في الدول النامية أيضاً، لكن لم تستفد الطبقة العاملة من هذا الوضع مطلقاً، وتعهد صانعو السياسة بأن تطلق التجارة والاستثمارات الدولية حركة تصاعدية واسعة في الدول النامية، لكن زادت مداخيل عدد صغير من العمال ذوي المهارات المتدنية، وأدى الفرق بين توقعات هؤلاء العمال والأحداث الحاصلة على أرض الواقع إلى زيادة خيبة الأمل، وفي بعض الحالات انتشرت مشاعر من البغض التام، وحتى الآن كان الغضب أكثر وضوحاً في الدول الغنية، مثل الولايات المتحدة، لكن إذا بقيت العولمة أداة لمساعدة الأثرياء بدرجات متفاوتة.يجب أن تتعاون جميع الدول لتجنب هذه النتيجة، وبغض النظر عن ادعاءات قادة مثل دونالد ترامب ومارين لوبان وشعبويين آخرين، حصد العمال في الاقتصادات الغنية منافع كثيرة من الأسواق العالمية، ومن خلال زيادة اليد العاملة في قطاع التصنيع ورفع الأجور في العقود الثمانية الأخيرة، أدت العمليات التجارية إلى تسهيل هيمنة الولايات المتحدة على العالم خلال النصف الأول من القرن الماضي، وسمحت للدول الأوروبية بإعادة بناء اقتصاداتها بعد الحربَين العالميتَين، إذ تساعد السياسات التي تفضّل التجارة والاستثمارات الدولية الدول الأكثر فقراً على إنشاء طبقات وسطى وبناء اقتصادات محلية قوية رغم فشلها في توزيع الثروات على نطاق واسع، ولحماية هذا النظام يجب أن تشمل الدول عدداً أكبر من العمال ذوي المهارات المتدنية.
لم ينشأ النظام الاقتصادي العالمي وهو يفكر بالدول الفقيرة، فبعد حقبة إنهاء الاستعمار، فضّلت معظم الدول المستقلة حديثاً السياسات الحمائية على التكامل الاقتصادي مع بقية دول العالم، وقررت الهند بعد استقلالها في عام 1947 مثلاً أن ترفع الرسوم الجمركية وتفرض قيوداً على الرساميل لتعزيز الإنتاج المحلي، وتبنّت دول عدة في أميركا اللاتينية سياسات تصنيع لاستبدال الواردات خلال الستينيات والسبعينيات، على أمل أن تنتج الرسوم الجمركية العالية والسياسات الحمائية أبطالاً محليين يستطيعون المنافسة عالمياً، وخلال السبعينيات، أقرّت الدول الصناعية في شرق آسيا، مثل كوريا الجنوبية، تدابير محلية بناءً على معيار التصنيع المُوجّه نحو التصدير وحققت نجاحاً متزايداً، فنشأت قوى محلية قادت النمو السريع والمبني على التصدير.في البداية، نفّذت العولمة وعودها، فقدّمت الأموال الأجنبية الجديدة في الدول النامية وظائف برواتب جيدة نسبياً لصالح الجيل الأصغر سناً، وفي الوقت نفسه، بدأت المصانع ومكاتب تكنولوجيا المعلومات ومراكز الاتصال تفتح أبوابها في أنحاء الدول النامية، فلم يكسب الجميع الأرباح فوراً، لكن تسنّى للعمال العالقين في الفقر أن يبنوا أحلاماً منطقية بأن يُحسّنوا عملهم قريباً، وفي غضون ذلك، استفاد هؤلاء من السلع الاستهلاكية التي تنتجها الماركات الأجنبية وأصبحت مقبولة الكلفة ومتاحة في المتاجر المحلية.لكن مع مرور الوقت، بدأ التفاؤل يتلاشى، وبقي الدعم للتجارة الحرة كبيراً وسط العمال ذوي المهارات المتدنية في الدول النامية، لكنه راح يتراجع بكل وضوح، ووفق استطلاع شمل مشاركين من جنوب إفريقيا مثلاً، تراجع ذلك الدعم من 88% إلى 76% بين العامين 2002 و2018، ومن 84% إلى 68% في البرازيل، وفي المكسيك انخفض هذا الدعم بنسبة 20%، من 89 إلى 69%، كذلك تراجع دعم التجارة الحرة بدرجات متفاوتة في الهند وباكستان ودول نامية أخرى.ستكون القصة الكامنة وراء مشاعر الخيبة السائدة مألوفة بالنسبة إلى المطلعين على بلدات التصنيع المتروكة في الولايات المتحدة، إذ تختلف الآليات الناشطة في هذا المجال، فقد توسّعت مشاعر الاستياء في المصانع التي أقفلت أبوابها في "أميركا الوسطى"، وفي المقابل انتشرت هذه المشاعر بسبب المصانع التي لم تنشأ يوماً في البرازيل ونيجيريا، لكن تبقى العملية المؤثرة على حالها.تتعدد المؤشرات التي تثبت اليوم أن الدول النامية ستكون مستعدة لمنع الوصول إلى أسواقها، فقد بدأت الدول الفقيرة تتصرف بعدائية لحماية مصالحها الرقمية، إذ تفكر الهند مثلاً بفرض قوانين توطين البيانات لإجبار الشركات على تخزين جميع البيانات المكتسبة من الهنود داخل البلد ومعالجتها، وفي الوقت نفسه بدأت دول عدة تُمرّر القوانين التي تفرض على شركات متعددة الجنسيات أن تستثمر في عمليات تقليدية محلية مقابل الوصول إلى أسواقها الاستهلاكية، ويبدو المنطق السياسي وراء هذه الاستراتيجيات واضحاً، لكنّ المنطق الاقتصادي شائك، وفي نهاية المطاف ستؤدي العوائق التي تحول دون تدفق الرساميل والسلع والخدمات عبر هذه الحدود إلى إضعاف النمو. وإذا انسحبت الدول النامية من النظام الاقتصادي العالمي فعلاً، فقد تنشأ عواقب كارثية، وهذا الانسحاب قد يجعل الكابوس الذي تواجهه سلاسل الإمدادات اليوم مجرّد مشكلة عابرة: من دون تسهيل الوصول إلى اليد العاملة والمواد منخفضة الكلفة، ستزيد أسعار المنتجات بشدة، مما يؤدي إلى تفاقم التضخم، كذلك، سيكون فصل اقتصادات العالم عن بعضها كفيلاً بإبطاء نمو سوق العمل نتيجة المصاعب التي تمنع توسيع عمليات الشركات، فهذا الوضع سيُخفّض الإنتاجية، ويعوق الابتكار، ويكبح النمو الاقتصادي الإجمالي في الدول الغنية والفقيرة معاً.يدرك عدد كبير من المحللين وصانعي السياسة الأميركيين أن الطبقة العاملة الغاضبة قد تُهدد منافع العولمة، ومنعاً لترسيخ النزعة نحو الانعزالية، يظن الكثيرون أن الولايات المتحدة يجب أن تجد طرقاً جديدة لتقاسم سلبيات التجارة مع العمال ذوي المهارات المتدنية، فقد أصدر بعض الأوروبيين دعوات مشابهة في بلدانهم الخاصة، لكن للحفاظ على العولمة، لا تستطيع الدول الغنية أن تكتفي باتخاذ خطوات محلية، بل يجب أن تجعل الاستثمارات التجارية والخارجية أداة لمساعدة العمال الفقراء في أنحاء الدول النامية.في بعض الحالات، تفرض هذه العملية على الدول النامية أن تُسهّل الوصول إلى أسواقها، فلطالما وجد العمال ذوي المهارات المتدنية في الدول الأكثر فقراً صعوبة في صعود السلم الاقتصادي مثلاً بسبب السياسة الحمائية في قطاع الزراعة داخل الدول الغنية، وقد بدأت هذه الدول بتخليص ملايين الناس من الفقر محلياً وخارجياً من خلال خوض منافسة صحية مع منتجين منخفضي التكلفة.لكن يجب أن يتحرك صانعو السياسة في "الجنوب العالمي" أيضاً، إذ تتكل دول نامية كثيرة على أنظمة اقتصادية لا تبذل جهوداً كبرى لمساعدة العمال ذوي المهارات المتدنية، لذا يجب أن تطبّق حكوماتهم إصلاحات جدّية، منها إقرار وإنفاذ سياسات لتحسين حقوق الموظفين، ومعاقبة الشركات التي تنتهك واجباتها البيئية والاجتماعية، والقيام باستثمارات مبتكرة في قطاع التعليم والتدريب كي يتمكن العمال من التنافس على وظائف أفضل، حيث سيحصل هؤلاء حينها على منافع إضافية بفضل الاستثمارات الخارجية. في غضون ذلك، يجب أن تتجنب الدول النامية السياسة الحمائية، فلا تفصل اقتصاداتها عن شركات التكنولوجيا الخارجية، ومن المتوقع أن تسهم التكنولوجيا الرقمية وقواعد البيانات في تحريك النمو الاقتصادي خلال العقود المقبلة، ويجب ألا تبقى الدول النامية خارج هذه النزعة.لكن لن يكون أيٌّ من هذه الخطوات سهلاً، إذ يعني التراجع الديموقراطي العالمي أن عدداً متزايداً من السياسيين لا يمكن محاسبته علناً، ويبقى اهتمام عدد كبير من قادة العالم بمساعدة الفقراء محدوداً، حيث تسيطر النُخَب التي تعيد توزيع الثروات على الأقوياء في دول كثيرة، حتى أنها تُخصص جزءاً من تلك الثروات لنفسها ولأعوانها، وأحياناً قد يحمل صانعو السياسة دوافع مؤسسية صائبة، لكن ستكون مطالبة الدول بمتابعة فتح أسواقها فكرة مخيفة في عصر القومية الشرسة، كما ستجد الدول الغنية بالذات صعوبة في تعريض أنظمتها الزراعية للمنافسة الدولية نظراً إلى النفوذ السياسي الذي يتمتع به لوبي المزارعين، وتخاف الدول الفقيرة من استياء الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تُهددها المنافسة الخارجية.لكن المجتمع الدولي أثبت اليوم أنه يستطيع اتخاذ خطوات جريئة للتصدي لمظاهر اللامساواة، فقد عبّر أكبر عشرين اقتصاداً في العالم مثلاً عن دعمه لفرض حد أدنى من الضرائب على الشركات، مع أن هذا النوع من التنسيق على مستوى السياسات لم يكن وارداً في السابق لإثبات قدرة الدول على التعاون في ما بينها وإنشاء مجتمع أكثر عدالة.في نهاية المطاف، قد يتوقف مستقبل العولمة على استعداد القادة لفهم عواقب فشل هذه المعركة وأهمية التحرك في أسرع وقت، ولإصلاح مسار العولمة، تبرز الحاجة إلى تعاون دولي حقيقي، لذلك يجب أن تلتزم الدول بتطبيق إصلاحات اقتصادية صعبة وتقوم باستثمارات عامة، ولو على حساب مصالحها المحلية الكبرى، وإلا قد تتلاشى المكاسب الاقتصادية المُحققة منذ عقود وستتبخر أحلام أفقر المواطنين في العالم ببلوغ الازدهار الذي تمنّوه طوال حياتهم.*نيكولو بونيفاي وعرفان نور الدين ونيتا رودرا