مستقبل المفهوم الاستراتيجي في حلف الناتو
سيشهد عام 2022 حدثَين دبلوماسيَين بارزَين في المجتمع العابر للأطلسي: الأول الاتحاد الأوروبي سيطرح في مارس "بوصلته الاستراتيجية"، وهي وثيقة تهدف إلى تحديد رؤية مشتركة حول الأمن والدفاع في الاتحاد الأوروبي، مما يعني تعريف معنى "الاستقلالية الاستراتيجية" في أوروبا ولو بطريقة مبهمة، والثاني حلف الناتو سيتبنى خلال قمة مدريد في يونيو "مفهومه الاستراتيجي" الجديد الذي يُحدد تفاصيل استراتيجية الحلف وهدفه ومهامه الأمنية الأساسية ويرصد التحديات والفرص التي يواجهها في ظل بيئة أمنية متبدلة، وكما يحصل مع جميع الوثائق من هذا النوع، تحمل هذه الوثيقة هدفاً سياسياً معيّناً كونها تكشف للعالم نظرة الاتحاد الأوروبي والناتو إلى الدفاع والأمن والعلاقات العابرة للأطلسي.لكن سيكون النقاش الذي يُمهّد للتوقيع على الوثيقتَين أكثر أهمية من الصيغة النهائية، ومن المتوقع أن تطلق الأسئلة المطروحة حتى ذلك الحين والنقاشات المرتبطة بالأجوبة عنها واقعاً أوروبياً جديداً قد يسمح بتعزيز القيادة الثنائية أو زيادة التنسيق الإقليمي داخل الناتو وبين دول أعضاء محددة حول مسائل استراتيجية محورية.ليس مفاجئاً أن يكون النقاش حول المفهوم الاستراتيجي ومعنى الاستقلالية الاستراتيجية انعكاساً للمصالح المتباينة بين مختلف الأطراف، وسيكون حل هذه الخلافات أصعب مما يظن الكثيرون، ففي المقام الأول، بدأت البيئة الأمنية في أوروبا تتدهور بسبب المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي سبّبها وباء كورونا، بما في ذلك الهجرة، وستؤثر هذه المشاكل حتماً على جميع دول الاتحاد الأوروبي بطرقٍ مختلفة.
لضمان تنامي الاستقلالية الأوروبية الاستراتيجية أو المسؤولية الأوروبية داخل الناتو كما تقترح فرنسا، يجب أن تكسب باريس تأييد لندن وبرلين، فقد أعلنت الحكومة الألمانية الجديدة أنها تنوي تنفيذ وعدها المرتبط بالاستثمارات الدفاعية في الناتو وتريد التمسك بخطط الحلف، وستكون برلين أول جهة يُفترض أن تقلق من التفسيرات السياسية لمصطلح "الاستقلالية" وتُشدد على أهمية الوحدة في أوروبا، فبرأي ألمانيا، يبقى أي نقاش حول "السيادة" الأوروبية مقبولاً إذا كان يرتبط بحلف الناتو وقدراته الدفاعية، وفي غضون ذلك، تتفاوض بريطانيا بشأن مكانتها داخل الاتحاد الأوروبي وتحاول بناء علاقات ثنائية مع دول أوروبية مثل بولندا وبلدان أخرى خارج أوروبا، لكنها مقتنعة بأن أوروبا تحتاج إلى زيادة مسؤولياتها الاستراتيجية داخل الناتو بموجب وضع العمليات الراهن في الحلف، لكنها لا تهتم بإعطاء الأولوية للحشد العسكري لأنها تستطيع التراجع بكل بساطة وتتكل على ردعها النووي وقواتها البحرية التي تزداد قوة وتتابع التركيز على نقاط تقع خارج حدود أوروبا القارية.من بين جميع أعضاء الناتو، تُعتبر الولايات المتحدة الأكثر اهتماماً بتحسين مسؤوليات أوروبا من الناحية الاستراتيجية، ويستطيع الأوروبيون أن يتحملوا مسؤوليات إضافية في غرب البحر الأبيض المتوسط وأجزاء من شمال إفريقيا ويُسهّلوا الدفاع الجماعي من دون الحاجة إلى إنقاذ سريع من الفِرَق الأميركية، وحتى لو فشلت النقاشات الراهنة، من المتوقع أن تنجح العلاقات الثنائية أو التحالفات الإقليمية داخل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. يحمل الجدل القائم حول مفهوم الناتو الاستراتيجي والنقاش المرتبط بالاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية طابعاً معقداً وشاقاً، ونظراً إلى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة وأوروبا في الوقت الراهن، يصعب التوصل إلى إجماع حقيقي في ظل التعقيدات التي تتعامل معها الدول، ومن الأصعب أيضاً إعطاء تفسير محدد للنقاشات القائمة، لكن إذا أدى النقاش إلى تسوية تُسهّل توسيع المسؤوليات الأوروبية عن طريق الاستقلالية الاستراتيجية، فقد تتحسن فرصة تجديد الروابط بين الولايات المتحدة وأوروبا.