عندما زرت برشلونة لأول مرة في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، بدت مدينة رائعة يسودها التفاؤل، والحيوية، والتقدمية؛ وتعج بالشباب من جميع أنحاء أوروبا، وكانت توازن بين فخرها الكاتالوني وانفتاحها على العالم، وأظهر فيلم "The Spanish Apartment"، الذي صدر عام 2002، وهو فيلم كوميدي تدور قصته حول مجموعة من طلاب التبادل في برشلونة، سبب اعتبارها العاصمة غير الرسمية لأوروبا المتوسطية.

وما يبعث على الأسى هو أنه خلال سنوات بعد تلك الحقبة، أصبحت برشلونة ضحية لنجاحها، إلا أن جائحة كوفيد19 قد تفتح آفاقا جديدة أمام مستقبلها.

Ad

وليست هذه هي المرة الأولى التي تنتعش فيها برشلونة، فخلال دكتاتورية فرانسيسكو فرانكو، كان يُنظر إليها على أنها مكان رمادي تقمع جمالها الطبيعي وحياتها المدنية، وبعد انتقال إسبانيا إلى الديموقراطية، انتهزت برشلونة الفرصة لتولد من جديد، إذ يقول الكثيرون إن نقطة التحول كانت دورة الألعاب الأولمبية لعام 1992، التي استغلها المسؤولون المحليون المتمرسون لعرض المدينة على المستوى الدولي، وتحويلها إلى وزن ثقيل في المناطق الحضرية.

وبميزانية محدودة، استفاد العمدة، باسكوال ماراغال، من الألعاب الأولمبية لبدء واحدة من أنجح عمليات إعادة التطوير الحضري في أواخر القرن العشرين في أوروبا، واستعان بمساعدة كبار محترفي التصميم المحليين والدوليين، لإنشاء خطة بلدية تضمن استفادة المدينة من إرث الألعاب بعد فترة طويلة من انتهائها.

وفضلا عن إنشاء المرافق الرياضية، عالجت الخطة اثنين من أكثر التحديات الحضرية عمقا في برشلونة: الواجهة البحرية والأماكن العامة، إذ طالما كانت الواجهة البحرية مقطوعة عن بقية المدينة بسبب قصر النظر في البنية التحتية والتنمية الصناعية، واليوم وبفضل المشاريع الكبرى التي أنجزت في الوقت المناسب للأولمبياد، دُمج الميناء مع المدينة عن طريق البر والمواصلات العامة، وأصبح مكانا حيويا يحتشد فيه السباحون على الشواطئ.

وتطلبت إعادة ابتكار هندسة الأماكن العامة اعتبار هذه الأخيرة روح الطابع المدني لبرشلونة لا أماكن مادية فقط، وأعادت مشاريع استعادة الساحات والمتنزهات توجيه مفهوم المواطنين لتراثهم الجماعي وهويتهم، وساعدت في تنمية المواهب المحلية في الهندسة المعمارية، وإحياء تقليد نبيل أفسدته إسبانيا في عهد "فرانكو".

وضُخمت خيارات التصميم الذكية هذه من خلال "التسويق الحضري"، فمع تراجع الحدود الوطنية على مستوى أوروبا في أواخر التسعينيات، وجدت العواصم الإقليمية نفسها تتنافس على جذب المواهب، والسياح ورأس المال باستخدام أدوات التخطيط والتصميم، وأثبتت جهود برشلونة في التسويق الحضري، بدءا من ألعاب 1992، نجاحها بصورة خاصة، ومنذ عام 2012، كانت المدينة تستقطب سنويا ما بين 25 و30 مليون زائر، وهو رقم هائل لبلدية يزيد عدد سكانها على 1.5 مليون نسمة.

وعلى غرار العديد من الوجهات الساخنة الأخرى، عانت برشلونة العواقب السلبية للسياحة الجماعية والتي تتمثل بالضغط على السلع العامة، وتراجع الخدمات التجارية للمقيمين، والطرد غير المباشر للسكان المحليين لإفساح المجال للفنادق والاستئجارات قصيرة الأجل.

"كونك سائحا يعني أنك تتملص من المسؤولية"، كما قال الروائي دون ديليلو، وغالبا ما يسافر السياح بمأمن من العقاب، فهم يشوهون الاقتصادات المحلية ثم يمضون إلى حال سبيلهم، ويستغلون المدن- المدينة المادية، كما كان يطلق عليها الرومان القدماء- دون إقامة أي علاقة مع الناس، أو دون حس المواطنة.

واستجاب السكان المحليون لذلك بغضب متزايد، فقد تصدرت الشعارات المعادية للسياح، بل حتى أعمال العنف الصغيرة ضد المجموعات السياحية عناوين الصحف الدولية، وساعدت ردود الفعل العنيفة المرشح، أدا كولاو الشعبوي، على الفوز في انتخابات رئاسة البلدية لعام 2015، واقترح كولاو سياسات راديكالية، بما في ذلك مصادرة الشقق الفارغة لاستخدامها كسكن عام، لكن مثل هذه المقترحات لا تضيف رؤية حضرية جديدة.

وحوّلت جائحة كوفيد19 ويلات برشلونة إلى أزمة، ففي عام 2020، اختفت حشود السياح فجأة، تاركين الشوارع فارغة ومئات المحلات على وشك الإغلاق، ويتفق القادة السياسيون والتجاريون والأكاديميون على أن الحقبة التي استهلتها دورة ألعاب 1992- التي حددتها سياحة الكر والفر التي أدت إلى نجاح برشلونة وإلى تراجعها- تقترب من نهايتها، ولم تحدد بعد معالم برشلونة في المستقبل، وماذا ستكون لحظتها الأولمبية؟

ربما حان الوقت للنظر في نموذج بديل للسفر، دعنا نطلق عليه اسم "سياحة الوتيرة" الذي يمكن استخدامه لإعادة اختراع برشلونة والمدن الأخرى حول العالم، حيث سيبقى سائحو الوتيرة لأسابيع أو أشهر في مكان واحد بدلا من الانتقال باستمرار من مدينة إلى أخرى، مما يتيح لهم الوقت لإعادة اكتشاف معنى مفاهيم مثل التكامل والمساهمة المدنية، ففي الماضي، كانت الإقامة الطويلة تعتبر رفاهية للنخبة، وخير مثال على ذلك بيغي غوغنهايم، أو كول بورتر في البندقية، لكن ظهور العمل عن بُعد يمكن أن يجعل مثل هذه الأطر الزمنية في متناول أكبر عدد من الناس.

وتسمح المؤتمرات عن طريق الفيديو بالفعل "للرحالة الرقميين" بالاستقرار في أماكن بعيدة عن منازلهم دون مقاطعة حياتهم المهنية، كما أن المرونة المشكوك فيها لما يسمى "اقتصاد الوظائف المؤقتة" يمكن أن تخلق فرص عمل محلية تتكيف بسرعة مع التحديات الحضرية المتغيرة، ويمكن لمدن مثل برشلونة تسخير قوة المنصات عبر الإنترنت لجذب السياح بوتيرة سريعة، ويمكن للحكومات أن تشجع الفنادق وشركات الطيران، وحتى المطاعم على تقديم خصومات أكبر بالنسبة لفترات الإقامة الطويلة.

كذلك، يمكن أن تستفيد المدن من تأثير الوباء على البنية التحتية للتعليم العالي والمهني، فإذا عرضت برشلونة على الطلاب الذين يحضرون دروسا عبر الإنترنت أماكن إقامة منخفضة التكلفة، يمكنهم إنهاء الدراسة ثم العمل في المدينة في مجال التمريض، أو تركيب الألواح الشمسية، بل يمكنهم أن يصبحوا رواد أعمال في مجال التكنولوجيا.

إن هناك العديد من القضايا المعقدة التي ينبغي حلها لتحقيق هذه الأفكار، ويتطلب تنفيذها شجاعة وجرأة، ولكن من الصعب وجود أماكن لديها هذه الصفات في برشلونة الغنية، ويمكن أن يسهم الإبداع الكاتالوني وسعة الحيلة في حل اللغز الحضري الكبير الذي ساعدت برشلونة نفسها في تقديمه للعالم الحديث: كيفية الانخراط في السياحة العالمية دون الخضوع لها.

* مدير Senseable City Lab في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو المؤسس المشارك لمكتب التصميم والابتكار الدولي Carlo Ratti Associati.