ماذا لو كانت لدينا رصاصة سحرية للتصدي لأزمة المناخ وضائقة الديون الناجمة عن الجائحة، والحاجة إلى تعزيز تمويل التنمية دفعة واحدة؟إنه لأمر مغرٍ بكل تأكيد أن نحاول التصدي لهذه القضايا بشكل مشترك، لأننا نحتاج فعلاً إلى حشد تمويل المناخ من البلدان الغنية (المسؤولة الرئيسية عن التلوث) لدعم البلدان المنخفضة الدخل (التي ستتحمل عبئاً كبيراً غير متناسب نتيجة لتغير المناخ).
قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إن «الاقتصادات الكبرى يجب أن تضطلع بواجب خاص تجاه البلدان الأقل نمواً والأكثر عُرضة للخطر»، في وقت ذكرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا، أنه «من المنطقي أن نسعى إلى معالجة الضغوط التي تفرضها الديون وأزمة المناخ بشكل مشترك، تتلخص الفكرة في ترتيب مقايضات الديون الخضراء».الواقع أن هذه الفكرة ليست جديدة؛ إذ اختُبِر شيء مشابه منذ ثمانينيات القرن العشرين، فخلال ذلك العقد الضائع، كانت سندات «برادي» تُعَد البند الرئيس على «قائمة» أدوات إعادة هيكلة الديون الدولية، واستخدم المدينون قروضاً رسمية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للحصول على سندات الخزانة الأميركية كضمان، مما سمح لهم بمقايضة القروض المصرفية القائمة بخصم كبير لسندات «برادي» المضمونة القابلة للتداول، فكانت مقايضات «الديون مقابل الطبيعة» أيضاً على القائمة خلال هذه الفترة، لكنها كانت أشبه بأطباق ثانوية.جرى تنظيم أقدم هذه الأدوات كصفقات بين إحدى منظمات الحفاظ على الطبيعة، والدائنين، والحكومات المدينة. وفي عام 1987، استخدمت المنظمة الدولية للحفاظ على الطبيعة (Conservation International) أموال المانحين للحصول على 650 ألف دولار من ديون بوليفيا الخارجية بسعر مخفض جداً بلغ 100 ألف دولار، وفي المقابل تعهدت بوليفيا بحماية محمية المحيط الحيوي «بيني»، وقدمت 250 ألف دولار (بالعملة المحلية) لإدارتها، كما استُخدِمَت أساليب مماثلة لإنشاء محمية بحرية في الفلبين ولحماية الغوريلا الجبلية في أوغندا.كانت مقايضات الديون بالطبيعة جذابة في نظر منظمات الحفاظ على الطبيعة ما دام يمكن استخدامها لشراء الديون المتعثرة بأسعار مخفضة جداً وتأمين الفاعلية لتمويل مانحيها، لكن الأمر لم يخلُ من شكوك حول مدى فاعلية ومتانة هذه الاستراتيجيات، ولهذا ظلت المبالغ الموظفة فيها بسيطة.كانت أكبر صفقات مقايضة الديون بالطبيعة بقيمة 580 مليون دولار مع بولندا في عام 1992، وأسس هذا لنموذج جديد من خلال إنشاء صندوق ائتمان مركزي للإشراف على الاختيار، وتنفيذ ومراقبة مشاريع الحفاظ على الطبيعة، والآن تُستَخدَم بنية مماثلة في دولة بيليز، التي تسمح لحاملي سنداتها التي تبلغ قيمتها 533 مليون دولار والمستحقة في عام 2034 «بتقديم عطاءاتهم عليها بخصم %45 من أصلها»، في حين تلتزم أيضاً بتخصيص 23.4 مليون دولار لحساب وقف الحفاظ على البيئة البحرية.وعلى الرغم من هذا المثال الحديث المشجع، لم تنطلق مقايضات الديون بالطبيعة طوال السنوات الثلاثين الأخيرة، ومع ذلك تنامى حجم قضايا الديون والمناخ إلى أبعاد هائلة، إذ تضاعف عدد الأحداث المناخية القاسية كل عام، ثم تضاعف إلى ثلاثة أمثاله، بل حتى أربعة أمثاله منذ ثمانينيات القرن العشرين.ما يدعو إلى التفاؤل أن التحليلات التي أعدتها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أصبحت الآن مقبولة في عموم الأمر، إذ تُظهِر تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ على نحو ثابت أن «ميزانية الكربون» العالمية اللازمة للإبقاء على الزيادة في درجات الحرارة العالمية بفعل الاحتباس الحراري الكوكبي بما لا يتجاوز 1.5 درجة مئوية تُستَنفَد بسرعة، والآن يستطيع العالم أن يتحمل إطلاق نحو 300 غيغا طن فقط من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وبمعدل الانبعاثات الحالي الذي يبلغ نحو 35 غيغا طن سنوياً، فإن هذا يعطينا أقل من عشر سنوات.انطلاقاً من إدراكها للضرورة المُلِحة، تبنت العديد من البلدان والشركات أهداف الوصول بالانبعاثات إلى الصِفر الصافي، كما بدأ القطاع المالي يحتضن معايير الاستثمار (البيئية، والاجتماعية، والخاصة بالحوكمة)، لكن المهمة التي تنتظرنا شاقة. تشير تقديرات مارك كارني، مبعوث الأمم المتحدة الخاص الحالي للعمل المناخي والتمويل، إلى أن الانتقال العالمي إلى اقتصاد الصِفر الصافي سيتطلب من 3.5 إلى 4.5 تريليونات دولار من التمويل سنوياً.كما بلغت ضائقة الديون مستويات تاريخية، فأثناء الجائحة ازداد عبء الدين الإجمالي المستحق على البلدان المنخفضة الدخل بنسبة 12 في المئة، ليصل إلى 680 مليار دولار في عام 2020، وعندما اندلعت الجائحة، كان التهديد بتوقف تدفقات رأس المال على نحو مفاجئ واندلاع أزمات مالية كاملة الأركان في الأسواق الناشئة يلوح في الأفق كبيراً، واستجابت مجموعة العشرين بتبني مبادرة تعليق خدمة الديون، التي استفادت منها أكثر من 40 دولة في تأجيل السداد، ومع ذلك، توصل تحليل أجراه صندوق النقد الدولي لسبعين دولة منخفضة الدخل إلى أن سبعاً منها تعاني ضائقة ديون بالفعل، و63 دولة معرضة لخطر ضائقة الدين عند مستوى مرتفع أو متوسط.وتتمثل إحدى المشكلات المرتبطة بمحاولة معالجة تغير المناخ والديون بحزمة واحدة في أنها لا تتوافق بشكل تام، وتشتد الحاجة إلى تمويل جهود تخفيف آثار تغير المناخ في البلدان المرتفعة الدخل، إذ يتركز نحو ثلث الاستثمارات الانتقالية المطلوبة في أوروبا والولايات المتحدة، وأكثر من النصف في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وأغلبها في الصين، ومن خلال استثناءات قليلة تكاد تكون مساهمة البلدان المنخفضة الدخل في الاحتباس الحراري الكوكبي لا تُذكَر، ومن الواضح أن التوفيق بين الاحتياجات المالية ومعالجة العوامل البيئية الخارجية منقوص في أفضل تقدير.من ناحية أخرى، ولأن العديد من البلدان المنخفضة الدخل معرضة بشدة لتغير المناخ، فإنها ستحتاج إلى التمويل للاستثمار في جهود التكيف، وقد يتسنى توفير بعض هذا التمويل من خلال تخفيف أعباء الديون؛ ولكن مرة أخرى، نجد أن التوفيق بين احتياجات التمويل وضائقة الديون منقوص، ففي حين تواجه بلدان مثل هاييتي، والنيجر، وجنوب السودان ديوناً مرتفعة ومخاطر مناخية حادة، تواجه بلدان أخرى عديدة واحدة فقط من هاتين المشكلتين.ويتمثل سؤال ذو صلة هنا فيما إذا كانت مقايضات الدين هي الطريقة الأكثر فعالية لتقديم الإغاثة، فقد كانت البلدان الغنية تمنح إعفاءات ثنائية للديون دون فرض شروط على نفقات البلدان المتلقية، وإذا كانت راغبة في دعم وجه إنفاق بعينه في مجال التكيف مع تغير المناخ في البلدان المنخفضة الدخل، فيمكنها دوماً أن تفعل هذا من خلال التحويلات المالية والمنح المشروطة، والواقع أن ملاءمة التخفيف المشروط للديون كأداة تمويل للبلدان المنخفضة الدخل ليست واضحة دائماً.الأمر الواضح هنا هو أن البلدان الغنية مسؤولة عن التسبب في أزمة المناخ، وهي بالتالي تتحمل مسؤولية أخلاقية عن مساعدة البلدان الأكثر فقراً في التعامل مع العواقب، والمجتمع الدولي محق في استكشاف الخيارات المتاحة لتحويل موارد تمويل العمل المناخي إلى البلدان المنخفضة الدخل، ونظراً إلى عدم التوافق بين المخاطر واحتياجات التمويل، فستنشأ الحاجة إلى إعداد قائمة بالأدوات للبلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل.وعلى هذا، فإن مقايضة الديون بالعمل المناخي قد تشكل خياراً بين خيارات أخرى، فمن الممكن تنفيذها باستخدام بنية أشبه ببنية سندات برادي، والتي قد تحل المشكلة المزدوجة المتمثلة بتوسيع التدفقات من القطاع الخاص والاستفادة منها، وسيكون حشد التمويل الخاص والعام أمراً ضرورياً، وهو يتطلب إنشاء أسواق سائلة لسندات المناخ وربما بعض التعزيزات الائتمانية في ترتيب ثلاثي الأطراف لسندات برادي.لتيسير هذه العملية، من الممكن أن يعمل صندوق النقد الدولي وبنوك التنمية المتعددة الأطراف على هيكلة مبادرات تخفيف الديون المشروطة وتقديم تحسينات مختلفة، وعلى سبيل المثال، من الممكن أن يستخدم صندوق النقد الدولي حقوق السحب الخاصة المعاد تدويرها لإقراض البلدان المنخفضة الدخل الموارد التي تحتاج إليها لاكتساب الضمانات اللازمة لسندات برادي الخضراء، وسيتفق الدائنون من القطاعين الخاص والعام على مقايضة سنداتهم بخصم كبير مقابل هذه السندات الخضراء، مما يزود الدولة بالتالي بحيز مالي للإنفاق على مشاريع المناخ، ومن الممكن تنفيذ عمليات إدارة ومراقبة عمليات التخفيف والاستثمارات المناخية باستخدام نموذج صناديق الائتمان التي خضعت للتجربة والاختبار في صفقات الطبيعة السابقة.الحق أن «صفقة برادي الخضراء» الطموحة من الممكن أن تعمل على حشد التدفقات العامة والخاصة لتمويل العمل المناخي في البلدان التي تعاني الدين المرتفع والمخاطر المناخية، ولن تكون رصاصة سحرية، ولن تكون هذه الفكرة الطبق الرئيس على قائمة تمويل المناخ، لكنها من الممكن أن تُحدِث فارقاً كبيراً لبعض البلدان الأكثر عُرضة للخطر.* بياتريس ويدر دي ماورو أستاذة الاقتصاد في معهد الدراسات العليا في جنيف.«بروجيكت سنديكيت، 2021» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
مقايضة الديون بالعمل المناخي
28-12-2021