المجلس الدستوري اللبناني و«الاستنكاف عن إحقاق الحق»
أعلن المجلس الدستوري في لبنان على لسان رئيسه عدم التوصل إلى قرار للبت في طعن تكتل «لبنان القوي» الذي يرأسه النائب جبران باسيل بقانون الانتخاب، وذلك لعدم توافر أغلبية سبعة أعضاء من أصل عشرة للتصويت على إبطال بنود معينة من القانون الطعين، مما أبقاه "ساري المفعول" مع استبعاد الدائرة الانتخابية رقم (16) المخصصة للاقتراع لصالح ستة نواب يمثلون الاغتراب اللبناني في القارات الست.وبغض النظر عن الانعكاسات السياسية لهذا القرار القضائي غير المعتاد، وما تبعه من ارتفاع في حدة الانقسام الداخلي وارتفاع الصوت "الباسيلي"- ولو لدواعٍ انتخابية- في وجه "الثنائي الشيعي"، ورغم محاولة القاضي طنّوس مشلب إبعاد شبهة التدخلات والضغوط السياسية، أقر رئيس أرفع محاكم القضاء اللبناني بأن "ما حصل قد يكون سقطة للمجلس الدستوري"!للأسف سقط المجلس الدستوري اللبناني مرة أخرى في فخ "الاستنكاف عن إحقاق الحق"، الأمر الذي سبق أن تناولته في عام 2013 في مقال علقت فيه على موقف القضاء الدستوري من الخطوة الجريئة التي خالف فيها رئيس الجمهورية اللبنانية السابق "ميشال سليمان" معظم الطبقة السياسية بإصراره على إحالة القانون "المسخ" المسمّى اصطلاحاً "قانون التمديد لمجلس النّواب" الى المجلس الدستوري للنظر في مدى انطباقه مع صحيح الدستور.
وقد كان من نتيجة هذا الطعن الدستوري أن شارك أرفع قضاة لبنان في جريمة نحر ما تبقى من إرث الديموقراطية، وباغتصاب ما تبقى من حق للشعب باختيار ممثليه، وذلك من خلال غياب بعضهم بشكل مقصود ومعلن عن حضور جسلة 11 يونيو 2013 التي كانت مخصصة للنظر في دستورية القانون مما عطّل النصاب، وأنهى أي فرصة للبت بالموضوع بعد فوات المهل الإجرائية اللازمة، وكانت النتيجة أن نجح مجلس النواب بالتمديد لنفسه باتفاق سياسي جامع استند فيه إلى "الخلاف السياسي" بين المتفقين أنفسهم، وما قد يولده ذلك من عدم استقرار أمني يهدد سلامة المنتخبين!وفقاً للمستقر عليه قانوناً وقضاء يأخذ "الاستنكاف عن إحقاق الحق" Déni de justice عدة أشكال من أوضحها التراخي المتعمّد عن النظر في القضية المعروضة، وكذلك تأخير الحكم الى حين تغيّر الظروف وتبدّل الحيثيات بما يصبح معه الحق مهدوراً، وتضحي معه المنازعات القضائية من غير طائل!المضحك المبكي في آن معاً أني بمجرّد أن كتبت في محركات البحث عبارة "الاستنكاف عن إحقاق الحق في لبنان" أحالتني أولى النتائج الى الصفحة الرسمية للمجلس الدستوري اللبناني، حيث كتب الأستاذ الجامعي والباحث القانوني "طوني عطا الله" معلّقاً على حكم سابق للمجلس بأن "لدى قراءة النص المطعون في دستوريته نكتشف حالة الإرباك التي أصابت المعايير، وهي لا تقل عن تسعة مفاهيم حقوقية أصيلة: الاستثناء... المساواة... الامتناع عن الحكم في الممارسة العملية بعد أكثر من عشر سنوات، وبالتالي تجاهل إشكالية الزمن والقانون لأنه ليس المطلوب فقط إحقاق الحق، بل أن تكون العدالة محققة واقعاً". من المؤسف، لا بل من غير المقبول تناول حرّاس العدالة بأي طعن في نواياهم أو المساس بعفة ضمائرهم أو التشكيك في حياديتهم، ومن المخيف تصديق القول أن بعض قضاة لبنان هم صنيعة التيارات السياسية الأقوى في مذاهبهم، أو أنهم مجرد أدوات مستترة بروب العدالة لتنفيذ مآرب من "أتى" بهم إلى قوس العدالة، فما زال الإيمان بالقضاء العادل واجباً، وما برح التعلق بنزاهة القضاة رجاءً، وما انفك قوس المحكمة مركب نجاة لإنقاذ الشعب اللبناني من واقع تتلاطمه أمواج السياسة والمذهبية وفائض القوة!فمن باب التذكير لا الاتهام، أسترجع مع قضاة المجلس الدستوري نص المادة (4) من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تفرض على القاضي اللبناني أن يعطي الحل القانوني بالرغم من انتفاء النص أو غموضه أو حتى عند وجود فراغ قانوني... وحتى لا تبقى الحقوق معلّقة أُعطي القاضي حرية استنباط الحلول وتطبيق المبادئ العامة والعرف والإنصاف، وحتى الاستناد الى الاتفاقيات والدستور، بحيث لا يمكن التذرع بأي عذر أو حجة للامتناع عن الحكم، تحت طائلة اعتبار القاضي "مستنكفا عن إحقاق الحق"، حيث يجوز في هذه الحالة مقاضاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة استنادا للمواد (741) وما يليها من قانون أصول المحاكمات المدنية.* كاتب ومستشار قانوني.