تتداول الأوساط العامة في الكويت أخيراً أحاديث عن تحركات نيابية لاسترداد الأموال العامة المنهوبة لمصلحة خزينة الدولة بمبالغ تصل قيمتها إلى عشرات المليارات من الدنانير؛ من خلال تشكيل لجان تحقيق برلمانية في عدد من القضايا والشبهات المالية، تعود إلى أكثر من 30 عاماً مضت، وهو النبأ الذي استقبله الرأي العام بين مرحب وداعم، أو مترقب للتفاصيل، أو متخوف من أن تكون ورقة للتكسب الانتخابي أو الانتقام السياسي.

ولا شك أن مسألة استرداد الأموال المليارية العامة المنهوبة أو المسروقة، تعتبر أمراً واجباً على كل من يمتلك سلطة ولو كانت محدودة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها مسألة معقدة ذات تفاصيل عديدة تتطلب الكثير من الخطوات والإجراءات، ربما يكون أولها لجان التحقيق البرلمانية، مروراً بتبني السلطتين التنفيذية والقضائية لهذا الملف، إلى تكليف شركات عالمية لتتبع الأموال المراد فحصها أو التدقيق عليها - خصوصاً للقضايا ذات الارتباطات والتعاملات الخارجية، كالناقلات والاستثمارات والتحويلات والتأمينات وغيرها- وصولاً إلى توقيع الكويت اتفاقية تعاون مع عدد من الدول لتسهيل إجراءات الاسترداد وتنفيذها... وفي كل خطوة من هذه الخطوات لا بد من مراعاة العديد من الضوابط التفصيلية المالية والمصرفية والقانونية لضمان جودة التنفيذ وتحقق الغرض المطلوب من استرداد الأموال، لاسيما أن من ستسترد منهم الأموال سيستعينون بشركات أموال ومحاماة للتصدي لأي مطالبة مالية أو دعوى قضائية كويتية.

Ad

ضوابط

مع ذلك، لا تزال مسألة استرداد الأموال المنهوبة في بداياتها، والواجب هو دعم المبادرة، لا تثبيطها، مع التشديد على أمرين أساسيين، الأول أنها قضية فنية محضة تتطلب العديد من الإجراءات التفصيلية، واستخدامها أداة لنزاع أو خصومة سياسية سيفقدها الكثير من قيمتها، والثاني أن وزن السلطات الدستورية في التحرك تجاه الأموال المنهوبة متفاوت حسب اختصاص كل سلطة، خصوصاً أن التحرك الدولي مالياً وقانونياً يتطلب تحركاً من السلطة التنفيذية ممثلة بوزارة العدل وإدارة الفتوى والتشريع، وبنك الكويت المركزي، أو السلطة القضائية ممثلة بالنيابة العامة أكثر مما يتطلب دوراً من مجلس الأمة، على أهميته في الرقابة على أعمال الحكومة في هذا الملف أو إقرار التشريعات الملائمة لإتمامه... وهذا ليس انتقاصاً من دور سلطة مقارنة بأخرى، إنما بيان لضرورة أن تكون "الدولة" بسلطاتها ومؤسساتها كاملة حاضرة في تنفيذ هذه المهمة الجديدة والمعقدة.

متطلبات

وتتطلب مسائل متابعة استرداد الأموال المنهوبة في أي بلد مجموعة من المتطلبات القانونية والإجرائية الخاصة، كتعزيز الإصلاحات القانونية والمؤسسية، فيما يتعلق بتعزيز الحوكمة والشفافية ومنع تعارض المصالح، بما من شأنه الالتزام بالمعايير الدولية، وإنشاء فرق محلية مؤقتة ومختصة تمثل الجهات ذات العلاقة باسترداد الأموال، كالبنك المركزي ووزارة الخارجية، ووحدة التحريات المالية، والنيابة العامة، وغيرها، لمتابعة التطورات مع الجهات ذات الصلة وإنشاء حساب بنكي أو صندوق حكومي محلي لتلقي الأصول والأموال المستعادة حال نجاح العملية أو جزء منها.

اتفاقات وشركات

والتتبع المالي ليس مسألة مستحدثة، بل تنظمها اتفاقات دولية كميثاق الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC) ومبادرتها ستار (StAR) بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجرائم (UNODC) وبين مجموعة البنك الدولي (WBG)، وهي مبادرة تضع الخطوات التنفيذية الخاصة باسترداد الأموال العامة المسروقة ضمن إطار التعاون الدولي، وهي تعتمد على تفاصيل مهمة مرتبطة بتحديد معايير التحقيق الشامل والموثوق به و تشارك الأدلة، ومراجعة الحسابات والتدريب، بالإضافة إلى شركات عالمية خاصة للتتبع تتولى تحليل الوثائق المالية ومباشرة إجراءات استرداد الأموال وطلب المساعدة والتسهيلات الدولية، لا سيما المالية والقضائية في هذا الشأن.

التتبع عالمياً

وأمثلة التتبع المالي في العالم عديدة، بعضها ناجح وبعضها لم يكتب له النجاح، ومن الأمثلة الناجحة نرصد عملية استرداد أموال منهوبة في دول مثل نيجيريا، والفلبين، وبيرو، ففي الحالة الأولى تمكنت نيجيريا، بعد مساعدة سويسرية وعمليات تتبع استمرت سبع سنوات، من أن تسترجع 2.5 مليار دولار من أصل 4 مليارات من أموالها المنهوبة في عهد الرئيس النيجيري الأسبق ساني أباتشا، فيما تمكنت الفلبين من استرداد 1.7 مليار دولار من مطالبتها البالغة 10 مليارات من ودائع في عهد الرئيس الفلبيني السابق فردناند ماركوس، بعد إجراءات تقاضٍ دامت 17 عاماً، في حين لم تنجح تونس مثلاً في استرداد أكثر من 70 مليون دولار من أصل مطالبات تتجاوز 12 ملياراً من عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

مسؤولية الدولة

حقيقة، لا توجد سوابق في الكويت يمكن الاستدلال عليها في تتبع واسترداد الأموال بطريقة قضائية أو متابعة جهات مالية، إذا استثنينا بعض من أعاد أموالاً عامة بصفة شخصية كجزء من تسوية قضائية وأشهرها قضية "ضيافة الداخلية"، ولا حتى رصداً رسمياً لحصة الفساد في الكويت، التي قدرها تقرير مستقل "شركة الشال للاستشارات" عام 2014 بنحو 698 مليون دينار سنوياً... وعلى أي حال، ربما تكون تقارير ديوان المحاسبة أساساً موضوعياً لتحديد الإطار العام لقضايا الفساد، التي تحتاج إلى متابعة واسترداد، ولكي تكون خطاً فاصلاً لمنع تداخل المصالح والأهواء في اختيار القضايا أو متابعتها، مع التأكيد على أن مسؤولية الدولة بمؤسساتها الكاملة هي عدم التستر على أي شخص يثبت تورطه في مثل هذه القضايا مهما ارتفع شأنه أو امتد نفوذه.

جرائم ومؤسسات

وإذا كان التفاؤل بإمكانية استرجاع الأموال المنهوبة ضرورياً لبدء العمل، فمن المهم أيضاً الاعتراف بأن الكويت شهدت خلال السنوات الماضية تضخماً لافتاً في إنشاء المؤسسات المالية الرقابية كالهيئة العامة لمكافحة الفساد "نزاهة"، وجهاز المراقبين الماليين، ووحدة التحريات المالية، إضافة إلى وجود البنك المركزي وديوان المحاسبة، إضافة إلى السلطات القضائية الأخرى، ومع ذلك شهدت تطوراً نوعياً في الجرائم المالية والعمليات المشبوهة كالصندوق الماليزي (MDB1)، وصندوق الجيش الكويتي، والنائب البنغالي والتاجر الإيراني، وغيرها مما وضع الكويت ليس في وضع التعاون الدولي لاسترداد الأموال، إنما تحت ضغط حكومات غربية كالولايات المتحدة أو وسائل إعلام عالمية ناقشت هذه المسائل بشكل استثنائي لم تتعرض له الكويت سابقاً.

إن عملية استرداد الأموال بكل تفاصيلها الفنية لا يمكن أن تنجح مالم يواكبها في الإدارة العامة تطور في مؤسسات الدولة بجميع سلطاتها تجاه ضبط التعاملات المالية وشفافيتها وحوكمتها؛ والأهم من ذلك كله أن تستكمل السلطات الأخرى كالتنفيذية والقضائية ما ستفضي إليه أعمال لجنة التحقيق البرلمانية لا سيما في القضايا المالية ذات الارتباط والامتداد الدولي، وإلا اعتُبر كل ما حدث برلمانياً نوعاً من التكسب السياسي أو الانتخابي على حساب فنية القضية وخطواتها الإجرائية، وبعدها يتعامل معنا العالم بالقدر الذي يفترض أن نستحقه من الجدية.

محمد البغلي