طوال أسبوعين، تجنبت أعلى محكمة في العراق دخول مواجهة مع الفصائل الموالية لإيران، والتي تطالب بإلغاء الانتخابات النيابية، غير أن هيئة القضاة صادقت أخيراً على النتائج، وكشفت تصدعاً في موقف الجناح المتشدد، وخطوة تراجعت فيها طهران عن إثارة مزيد من التوتر في بغداد.

وبينما كان الموقف هو انتظار المحكمة توافقاً سياسياً بين تيار الصدر، المنتصر في الاقتراع، والفصائل التي تمثل الخاسر الأكبر، رد القاضي فائق زيدان الطعون، وخاطب الرئاسة بالمصادقة على الاقتراع، وتحولت كل تهديدات الحركات المسلحة إلى استعراض فقير، أدى إلى موجة سخرية شعبية واسعة من حملات منظمة وبلا نهاية تقودها الفصائل ولكن بمردود عكسي. وقبلت الفصائل على مضض بموقف المحكمة العليا وطلبت من جمهورها المحتشد أمام مقار الحكومة منذ أسابيع، الانسحاب، في وقت سارعت صباح أمس إلى بيت الصدر في مدينة الكوفة بالنجف، حيث عُقد اجتماع مغلق معه ضم هادي العامري القيادي المخضرم في الفصائل، وفالح الفياض المقرب من واشنطن وطهران في هيئة الحشد الشعبي، إلى جانب قيس الخزعلي، أكبر خاسر في اقتراع أكتوبر.

Ad

ولم تظهر تفاصيل عن لقاء النجف، إلا أنه كان اعترافاً بأهمية تيار الصدر وصعوبة تجاوزه من جانب الأطراف المقربة من طهران، والتي اكتفت بوصف الاجتماع بأنه إيجابي وسيكون فاتحة للقاءات أخرى.

أما الصدر، فقد اختصر الأمر بعبارة باتت مثل «كليشة» معروفة لرفض التدخل الإيراني، إذ كتب على «تويتر»: «لا شرقية ولا غربية، حكومة أغلبية»، في إشارة إلى رفضه الوصفة السائدة منذ سقوط صدام حسين لتشكيل حكومة تضم جميع الأحزاب بالتوافق، وهي نقطة خلاف أساسية بين الصدر والإيرانيين منذ الانتخابات التي جرت قبل نحو ٧٠ يوماً.

وقالت مصادر رفيعة، لـ «الجريدة»، إن القوى السنية والكردية باتت تمتلك حرية أكبر في التعامل مع مقتدى الصدر صاحب الكتلة الأكبر حتى الآن، بعد إذعان الجميع لنتائج الانتخابات التي غيرت الأوزان السياسية وجاءت بعشرات المستقلين المتحالفين مع حراك أكتوبر الشعبي.

وتَعزز هذا الشعور مع تناقل أجواء قريبة من طهران أنباءً عن أن الفصائل بدأت تفصل حساباتها عن هادي العامري رئيس منظمة بدر، الحليف لطهران، لكن الممثل للجيل الأقدم والمرتبط بمصالح سياسية واقتصادية أقوى، مما يعني احتمال أن يذهب العامري مع الصدر ويضحي ببعض التشكيلات المسلحة المعروفة باندفاعاتها.

ولم يعمد الصدر إلى تهدئة مع حلفاء إيران، بل لجأ مطلع الأسبوع إلى مناورات خاطفة انتهت بسيطرة حلفائه إدارياً على أهم المدن، عبر إقالة وتعيين محافظين للنجف والناصرية، وترتيب اتفاق مع محافظ البصرة، وتمسك بعدد آخر من الوحدات الإدارية جعلته قبيل أي محادثات لتشكيل الحكومة، يضمن أهم المناطق الشيعية.

ويتهم الرأي العام حكومات التوافق التي يشارك فيها الجميع، بأنها تسببت في تفشي الفساد وترهل الإدارة الحكومية، في وقت يدعم حكومة أغلبية تقصي الفصائل الخاسرة.

وليس من الواضح ما إذا كانت حظوظ رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي ستبقى مرتفعة أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة، لكن التيار المعارض للنفوذ الإيراني يقول إن الأمر لا يتعلق بشخص الرئيس، بل بحكومة لا تتراجع عن مستوى سياسات الكاظمي التي مضت إلى حد كبير في الانفتاح مع المحيطين الإقليمي والدولي، ولعبت دوراً في لقاءات تهدئة بين إيران والعرب، وعملت داخلياً على حماية الاحتجاج الشعبي الذي تعرض سابقاً لقمع شامل.

ورغم أن مهمة الصدر وحلفائه لم تصبح سهلة بعدُ، فإن الإشارات السياسية وتراجع تهديدات الفصائل تعتبر قبولاً إيرانياً بقواعد جديدة تحاول التكيف مع تحولات الرأي العام الضاغط، والدعم الذي أتيح لبغداد في محيطها العربي، خلال مواجهات مع الجناح المتشدد جعلت الشهور الماضية هي الأكثر استقطاباً منذ سنوات.

محمد البصري