بعد نشر إشارات خاطئة واستعمال حِيَل خادعة، أعلن الشعبوي الفرنسي والقومي المتطرف المثير للجدل، إيريك زمور، ترشّحه للرئاسة الفرنسية منذ أيام عبر واحد من أغرب الفيديوهات التي يمكن أن يقدّمها زعيم محتمل في أي بلد، إذ يمتد الفيديو على عشر دقائق ويقرأ فيه زمور بياناً جاهزاً وهو ينظر إلى الأسفل على وقع ألحان بيتهوفن الراقية: إنه الإيقاع البطيء للسيمفونية السابعة التي تم تشغيلها على الراديو الألماني في زمن الحرب بمناسبة عيد ميلاد هتلر، وتابع زمور قراءة البيان تزامناً مع ظهور مشاهد لأعمال العنف في الشوارع، ولاعبي كرة القدم وهم يركعون أثناء تشغيل النشيد الوطني، ولقطات أخرى للمسلمين وهم يصلّون، إذ تهدف هذه المشاهد كلها على ما يبدو إلى تجسيد التغيير الكبير الذي يحذّر منه زمور مقابل مجموعة من صور فرنسا "الهادئة" التي بدأت تتلاشى برأيه، فشملت الصور التي تُجسّد عظمة التراث الفرنسي هرم اللوفر الذي صمّمه الأميركي من أصل آسيوي أيو مينغ باي. إنه عرض غريب بالنسبة إلى بيان قومي متطرف، وهو يزداد غرابة لأن زمور، الذي يعتبر نفسه المدافع الأخير عن إرث جان دارك، بطلة اليمين المتطرف الدائمة، هو ابن عائلة جزائرية يهودية مهاجرة رحّبت بها فرنسا خلال الخمسينيات.

يُعتبر زمور نسخة فرنسية من ترامب لأنه اشتهر على الصعيد الوطني كشخصية تلفزيونية قبل الترشّح للانتخابات، كما أنه نشر كتابَين حققا أعلى المبيعات: The French Suicide (الانتحار الفرنسي) في عام 2014، و France Has Not Said Its Final Word (فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة) في شهر سبتمبر الماضي، لكن تبقى هذه المقارنة مُضلِّلة بشكل عام لأن الكيان الوحيد الذي يكرهه زمور أكثر من الإسلام هو الولايات المتحدة، حتى أن مواقفه الشرسة ضد واشنطن قد تكون أكثر جزء صادم من شخصيته نظراً إلى تسلل أسلوب الحياة الأميركي إلى حياة الفرنسيين اليومية، ومن وجهة نظر زمور، تُعتبر الولايات المتحدة عدوّة دائمة للعظمة الفرنسية، حتى أن إنزال النورماندي في يونيو 1944 كان غزواً مُصمّماً لفرض الهيمنة الأميركية على فرنسا.

Ad

لكن ثمة نقاط تشابه واضحة بين زمور وترامب، فلا يخشى زمور المناظرات، بل إنه يغوص فيها بأسلوب استفزازي، وعلى غرار ترامب، تحمل أشهر مواقفه وأكثرها إثارة للجدل طابعاً سخيفاً، فينطبق ذلك مثلاً على الوعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية بإعادة تشديد القوانين المنتظرة منذ وقتٍ طويل لمنع المهاجرين من إطلاق أسماء "غير فرنسية" على أولادهم.

قواسم مشتركة

على مستوى أعمق، تبرز قواسم مشتركة أخرى بين الرجلَين، إذ يجسّد ترامب شخصية رجل الأعمال الناجح في نيويورك، كذلك، يؤدي زمور دور المفكر الفرنسي أو الشخصية الاجتماعية التي تحمل امتيازات مماثلة في فرنسا، وغالباً ما تعجّ خطاباته بالمراجع الأدبية والتاريخية، مع أنه لا يحمل عقلية المفكر الحقيقي، فهو يقرأ كتباً كثيرة (على عكس ترامب الذي لا يقرأ الكتب على ما يبدو، ولا حتى كتبه الخاصة)، لكنه يستخلص منها مراجع تاريخية معزولة حيث يجسّد أبطال فرنسيون متنوعون، من أمثال لويس الرابع عشر ونابليون وشارل ديغول، معنى العظمة الفرنسية، كما يحمل كل واحد من هؤلاء القادة أفكاراً مختلفة بالكامل عن طبيعة فرنسا وهويتها المثالية، وقد خسروا معارك كبرى أكثر من تلك التي فازوا بها، ومع ذلك لا يتوانى زمور في الإشادة بمفهوم القوة الذي يرتكز على العظمة العسكرية.

على صعيد آخر، يتقاسم زمور مع ترامب صفتَي الوقاحة والجرأة، وهو خليط قوي: ينبهر الناس بالجرأة التي تُمهّد للوقاحة، ويستفيد ترامب وزمور معاً من شلل معيّن في وسائل الإعلام، حيث يسهل أن يتحول أي اعتراض إلى تعليق مريع، لكنّ عادة الموضوعية تسمح بمرور هذا النوع من التعليقات، فمارين لوبان هي الزعيمة البديلة لليمين المتطرف في فرنسا، وقد ورثت دورها من والدها جان ماري، فقد سبق أن أطلقت شكلاً بغيضاً من الشعبوية بناءً على كره الأجانب، لكنها باتت أكثر حذراً عند الإدلاء بأي تعليقات علنية متعصبة اليوم، وفي المقابل، لا يتردد زمور في إعادة إحياء مجموعة من أبشع الحكايات الفرنسية المعادية للسامية من حقبة ما قبل الحرب، مع أنه يهودي (أو ربما لأنه يهودي ويريد تحصين نفسه ضد هذا النوع من التُهَم)، فهو يزعم أن براءة ألفريد دريفوس ليست مؤكدة بعد (مع أنها كذلك)، ويدافع عن نظام الماريشال بيتان لأنه حمى اليهود الفرنسيين رغم نقله اليهود الأجانب إلى معسكر "أوشفيتز".

كانت محاولة زمور اعتبار ديغول قدوته مريعة بمعنى الكلمة، فهو اعتبر أن أعظم موقف للجنرال الشهير يتعلق برفضه أي شكل من التعامل مع فرنسا الفيشية، ويهدف هذا النوع من المواقف إلى تبرئة الدولة الفرنسية من أي ذنب حين قررت ترحيل آلاف اليهود إلى مكان قتلهم لاحقاً، واليوم أصبحت الحقيقة معروفة وراسخة، وقد ذكر مؤرخ على التلفزيون الفرنسي حديثاً أن ادعاءات زمور لا أساس تاريخي لها.

حين قرأ له المعلّقون تصريحات مشينة من كتبه، ردّ زمور بطريقة لامبالية وقال إن واجب كل مفكر يفرض عليه أن يطرح الأسئلة التي تراوده، وعندما يهاجم "تأنيث" فرنسا الاجتماعي، هو لا يريد بذلك أن يهاجم نساء فرنسا كما يقول، بل يرغب بكل بساطة في حمايتهنّ من احتمال تعرضهنّ للظلم بسبب القيود الإسلامية أو أفكار العدالة الاجتماعية المعاصرة، ونتيجةً لذلك، يسهل أن يبدو منافسوه لطفاء أمام أسلوبه الفظ، ومقارنةً بزمور، قد تبدو مارين لوبان مشابهة لهيلاري كلينتون، حتى أن هذه المقارنة قد تدفع الناس إلى الاعتياد عليها واعتبارها شخصية عادية.

بعيداً عن هذه التفاصيل كلها، هل يستطيع زمور أن يُحقق الفوز؟ في الأيام الأخيرة، شهدت أرقامه تراجعاً معيناً بعدما كانت متصاعدة، فربما يتعلق جزء من السبب ببعض التصرفات الشائبة والمثيرة للجدل، حتى بالنسبة إلى شخصٍ مثله، فقد وجّه مسدساً (فارغاً) نحو الصحافيين في قاعة أحد المعارض، ورفع إصبعه الأوسط في وجه امرأة في مرسيليا، علماً أنها قامت بهذه الحركة النابية أولاً، ثم انتشر خبر عن إنجابه طفلاً من مساعِدة أصغر سناً مع أنه متزوج منذ مدة طويلة من محامية اسمها ميلين شيشبورتيش ولديه منها ثلاثة أولاد، ومن المعروف أن القوانين المضادة لاختراق الخصوصية قوية في فرنسا، لكن لا مفر من انتشار هذا النوع من الأخبار، فردّ زمور على هذا النبأ عبر "تويتر"، حيث كتب: "مهما حصل، دائماً وفي كل مكان، سأدافع بكل شراسة عن خصوصيتي وخصوصية أحبائي، أتفهم أننا جزء من الحياة العامة لكني لا أتقبل التلصص على الناس، وأعتذر من المنحرفين". يؤكد أصدقاء فرنسيون للأميركيين أن زمور اشتهر بسرعة البرق وسيسقط بالسرعة نفسها، لكن يصعب أن يصدّق الأميركيون تطمينات أصدقائهم المنطقية لأنهم يتذكرون أن ترامب كان محكوماً بالهزيمة في عام 2016 بعد إهانته عائلة جندي سقط في أرض المعركة ثم انتشار فيديو يثبت مهاجمته للنساء، لكنه عاد وفاز في الانتخابات.

يستغل زمور طبعاً مخاوف الناس العاديين من التغير الاجتماعي والهجرة والجرائم، مع أن جميع الأطراف في فرنسا تشعر بالمستوى نفسه من الاستياء بسبب الإرهاب الإسلامي، بما في ذلك قطع رأس أستاذ المدرسة سامويل باتي والهجوم القاتل على مسرح "باتاكلان"، لكن يختلف زمور عن غيره لأن حلوله تبدو غير واقعية بقدر اقتراحات ترامب. (حتى لو أصبح جزءاً من السلطة، ستصل وعوده بترحيل أعداد هائلة من المهاجرين إلى طريق مسدود مثل ترامب). ولا ننسى أن الأحزاب التقليدية في معسكرَي اليسار واليمين، بعد عهدَين رئاسيَين فاشلَين على التوالي، هي التي أنشأت الظروف الملائمة لظهور شخصيات مثل زمور:

الاستمتاع بلقب رئيس

أولاً عهد نيكولا ساركوزي المحافِظ والكارثي، ثم عهد فرانسوا هولاند الاشتراكي التقليدي، فقد نجح هذان الرئيسان في تدمير حزبَيهما بشكلٍ شبه كامل، فظهرا بصورة "الملك الفرنسي العاجز" (إنه مصطلح فرنسي قديم استعمله المؤرخ أينهارد في القرون الوسطى لوصف الظروف التي يصبح فيها الملك عاجزاً عن فعل أي شيء، فيكتفي بالاستمتاع بلقبه كملك)، ويبدو أن هذين الرئيسَين استمتعا أيضاً بلقب "الرئيس" أكثر مما أرادا تنفيذ المهام الموكلة إليهما.

لكنّ الإخفاقات التي أنتجت شخصيات مثل إيريك زمور وجعلته مرشّحاً محتملاً للرئاسة هي التي أنتجت، في عام 2017، المرشّح المستقل إيمانويل ماكرون الذي يحافظ على حظوظ جيدة لإعادة انتخابه، وفي الوقت الراهن قد يكون صعود زمور، في الحد الأدنى، مجرّد حدث لتذكيرنا بأن كل بلد يبتكر أسلوبه الفاشي الخاص في مرحلة معينة، فقد سبق أن لاحظ البعض أن لغة وتصرفات اليسار الشمولي تكون موحّدة على نحو لافت في مختلف البلدان من تلاشي مفردات المخططات التاريخية المبنية على علوم زائفة، وتقديم تبرير فظ لصراع الطبقات (يكفي أن نقرأ كتابات ستالين وماو تسي تونغ وبول بوت كي نغرق في الجحيم نفسه)، لكن يحاول كل عصر ووطن البحث عن أسلوبه الخاص من الاستبداد اليميني، ففي إيطاليا مثلاً، اتخذ هذا الاستبداد طابعاً أوبرالياً في جوهره وكلاسيكياً جديداً في شكله، وفي إسبانيا، كان طابعه كاثوليكياً قاتماً، وفي ألمانيا، كان عنيفاً وعاطفياً على نحو مفرط، وليس مفاجئاً أن يرتكز الاستبداد الأميركي على أشكال من تلفزيون المشاهير، ويُفترض ألا نتفاجأ أيضاً إذا كان نوع الاستبداد الفرنسي في العصر الراهن، كما في فترة الأربعينيات، يرتبط بِسِعَة اطلاع ظاهرية تُخفي وراءها كراهية داخلية حاقدة تجاه الآخرين، ونتمنى أن يدرك الفرنسيون حقيقة نسختهم الاستبدادية ويتجاوزوها بوتيرة أسرع مما فعل الأميركيون.

*آدم غوبنيك

The New Yorker