ظل اللحظة *
كثيراً ما تستغرقك اللحظة في تفاصيلها وتأخذك بعيداً عن معانيها فإما تبعدك عمن عاشها معك أو تقربك جداً لتلتصقا وتخزناها، أي اللحظة، خوفاً من ضياع جديد!! في حين تنتقل هي فتنير أياماً طويلة قادمة مغمسة ببرد شتاء طبيعي أو حتى صقيع الفراق والوحدة. اللحظات المحفوظة في الذاكرة ليست في مجملها حفلاً صاخباً أو عشاء فخماً أو احتفاليات الكون بنهاية عام وقدوم جديد، ربما كانت ترحيبا أو خوفاً أو كليهما ففي النهايات تختلط المشاعر ويصعب تفكيكها وتحويلها إلى أفكار أومسميات.اللحظة تلقي بظلالها على النفس أو ربما على العقل فتنعش بعضه أو توقده بأسئلة عالقة دون إجابات، فكثيراً من الأسئلة لا إجابات لها وبعضهم يقول إنها من فعل القدر وأجوبتها في الغيب، ربما هم، أي القدريين، أكثر سلاسة في تفسير اللحظة أو الحدث أو الجمود، وأكثر راحة مع النفس حتى في ساعات الموت الموجع تجدهم يقولون "الله جاب والله أخذ" أو أنه القدر فهل نعارض مشيئة الله؟!! وهنا يسود الصمت على اللحظة ويهرب ظلها في عتمة الغيبيات المريحة للدماغ والمزاج والنفس والقلب.
القدريون قادرون على الحياة دون مسكنات أو مخففات أو حتى الجري وراء المغريات، هناك لحظة شديدة الغواية يسعى بل يهرول إليها الكثيرون فينتهي بهم الأمر إلى بعضها أو حتى إلى سراب خلف سراب، وبعض الاحتفالات المرتبطة بتواريخ مشاعة للجميع لدى بعضهم هي لحظة من العدم فيتساءلون: لماذا علينا الفرح في هذه الليلة أو الحزن في تلك أو التشاؤم مع مرور كذا أو التفاؤل عند جلوس الحمامة على شرفة منزلهم؟ كثير من أسئلتهم ربما هي من يفسد اللحظة نفسها حتى لو كانت هي عابرة وسريعة.. للناس لحظاتهم يختارونها أحيانا وكثيراً هي تسقط عليهم بفعل التقاليد أو المجتمع أو العادات أو المتبع أو المتعارف عليه أو فقط ليكونوا جزءاً من الكل، يبقى الفرد يسعى أن يقبل في بيئته ومجتمعه وحاضره حتى يقدم كثيراً من التضحيات من أجل أن يقبل ويكون رقماً من الأرقام أو مكمل عدد ويقنع نفسه أو نفسها بالقول المتعارف عليه في مجتمعاتنا "حشر مع الناس عيد"!! فأي لحظة هي مع الآخرين أفضل بكثير من الوحدة كما يفضل الكثيرون تسميتها، أما الوحدة فتفسيراتها تفتح معاجم عدد صفحاتها أكبر من أن تلخص، فكثيرون يجدون الوحدة القاتلة في الجمع الذي لا يشبههم!! وآخرون يفضلون الهروب إلى رواياتهم وكتبهم ومعاملهم أو ربما الجلوس عند حافة النهر أو البحر حيث للموجة حضور يفوق حضور بعض البشر من "الرغايين"!!لحظة هي لا تشبهها أي لحظة أخرى ولا يستطيع الكثيرون أن يفهموا منطق تخزين اللحظة بدلا من الجري للوقوف في الصفوف والجموع، وهم أيضا لا يفهمون معنى الدخول في عوالم من الكلمات أكثر عمقا ومبعثا للفرح أو البهجة المثيرة، من محاولة تمثيل الفرح عند بدء العد التنازلي 10، 9، 8، 7، 6، 5، 4، 3، 2، 1، هاي هاي هاي هاي.. فيعلو الصراخ ويسود الصخب وكأنه هو من سيضمن أن يوماً واحداً هو أفضل من 31! في حين ربما كان من الأفضل لهم أن يحتفلوا كما قال المصريون سابقا بكسر "القلل" حتى يقتلوا اللحظة أو اللحظات التي رافقت ذاك العام الذي كان، لم يقل لهم أحد إنها كلها عجينة من الحزن والفرح أو الغضب والحلم. يحاول البعض البحث عن اللحظة قبل أن تأتي، يعملون بجد لتكون كما يريدون أو كما يرسمون لها كارهين بذلك عنصر المفاجأة وهو الأقوى في المشاعر، وهو يشكل أكثر اللحظات تخزينا في الذاكرة، بل يبقى ظل الحدث المفاجأة كما هو الحدث باقياً في وسط الذاكرة مخترقاً كل سابقاته، وما يأتي بعده. اللحظة التي تفاجئك ليست كلها حزناً وأسى ومصيبة، بل هي أيضا بعض البهجة غير المتوقعة والحب الذي لم تكن تحلم به أو ربما لم تكن تتوقعه حتى إذا بهتت اللحظة بفعل تقدم السن أو فقدان الذاكرة التدريجي يبقى ظلها من بعيد، ربما كان باهتاً بعض الشيء إلا أنه يبقي اللحظة حية.* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية.