في بداية شهر نوفمبر، كان الوضع على حدود بيلاروسيا مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي سيئاً، وتابعت السلطات البيلاروسية جلب المهاجرين إلى الحدود، حيث بدأ جزء منهم يهاجم الجنود البولنديين الذين كانوا يحرسونهم، بتحريضٍ من قوات بيلاروسيا، حتى أن البيلاروس بأنفسهم ضايقوا الجنود البولنديين وحاولوا تدمير سياج بولندا الحدودي، لكن بعد مرور شهر على تلك الأحداث، راح المهاجرون يعودون إلى ديارهم، وبدأت الحملة التخريبية التي يقودها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو تتعثّر، يُفترض أن تشكر أوروبا بولندا والأطراف الأخرى التي شاركت في الدفاع عن الحدود، مثل لاتفيا وليتوانيا، وتستخلص درساً مهماً مما حصل.

لقد انتهى زمن التبجّح الذي كان سائداً في شهر مايو، حين تعهد رئيس بيلاروسيا بإغراق الاتحاد الأوروبي بالمخدرات والمهاجرين، حتى أن الوضع اختلف عن الشهر الماضي، عندما صرّح لوكاشينكو لقناة "بي بي سي": "إذا تابع المهاجرون المجيء من الآن فصاعداً، فلن أوقفهم لأنهم لا يأتون إلى بلدي، بل إنهم ذاهبون إلى بلدانكم"، فقد كان المهاجرون يتوقون طبعاً إلى بلوغ دول الاتحاد الأوروبي وقد استغلّهم حاكم يحتاج إلى سلاح يفيده، حتى أن موت بعض المهاجرين لم يدفع لوكاشينكو إلى التخلي عن حملته.

Ad

اليوم، يعترف لوكاشينكو أمام المهاجرين، سلاحه الاختياري، بفشل تلك الحملة العدائية، لقد فشلت جهوده لدرجة أن تُغيّر السلطات البيلاروسية مكان المهاجرين الذين أرسلتهم إلى الحدود: نقلت بيلاروسيا المهاجرين إلى أحد الملاجئ، ويتشجع الكثيرون الآن على العودة إلى بلدانهم الأم، وفي 4 ديسمبر، هبطت رحلة على متنها 419 مهاجراً في عاصمة كردستان العراق، أربيل، ووصلت رحلة أخرى بعد ثلاثة أيام، مما يعني أن 3 آلاف شخص من بين المهاجرين الذين أراد لوكاشينكو استغلالهم لنشر الفوضى داخل الاتحاد الأوروبي عادوا إلى ديارهم حتى الآن. (في غضون ذلك، سافر نحو 11 ألف شخص من الذين نجحوا في عبور حدود بولندا إلى ألمانيا).

لقد فازت بولندا ولاتفيا وليتوانيا فعلاً، وحققت هذا النصر عن طريق التماسك والصمود، حتى أن صرامة الموقف الذي اتخذته تلك الدول الثلاث جعلت القوات البولندية تعيد المهاجرين من الحدود، وهكذا أنقذت بولندا الاتحاد الأوروبي من عدائية بيلاروسيا عبر تخصيص الأموال اللازمة ونشر نحو 15 ألف جندي على الحدود، بمساعدة لاتفيا وليتوانيا اللتين قدّمتا الأموال والقوات العسكرية أيضاً لتأمين الحدود التي لم تحتج إلا لحماية مدنية خفيفة طوال ثلاثة عقود.

في الوقت نفسه، طلبت تلك البلدان من هؤلاء الجنود أن يتصرفوا بصرامة تفوق ما تجرؤ عليه معظم دول الاتحاد الأوروبي، فهذا التحرك لم يمنحها الدعم من دول الاتحاد التي تشكك أصلاً بنواياها الديموقراطية والليبرالية، لكن يُفترض أن تشعر دول الاتحاد كلها بامتنان شديد تجاهها.

لنتخيّل للحظة ما كان سيحصل لو اعتبرت الحكومات الثلاث أن استعمال بيلاروسيا للمهاجرين كسلاح بحد ذاته ليس من شأنها حين كان المهاجرون يحاولون الوصول إلى ألمانيا بأي ثمن، فتلك الدول كانت ستأمر حرس الحدود بالقيام بواجباتهم الاعتيادية لكن من دون أن يجازفوا بحياتهم لوقف التحركات غير القانونية، أو كانت ستقرر أيضاً متابعة المهام العسكرية العادية بدل تعريض الجنود لأسلحة بيلاروسيا وطلقاتها التحذيرية.

على غرار لوكاشينكو، كانت تلك الدول تستطيع أن تقول إن المهاجرين ليسوا قادمين إليها بل إلى دول الاتحاد الأوروبي، وفي هذه الحالة، كان إصرار لوكاشينكو على استعمال المهاجرين كسلاح بحد ذاته سيتضخم سريعاً، فتتحول الأزمة إلى مشكلة ألمانية وأوروبية بدل أن تكون مشكلة بولندا ولاتفيا وليتوانيا، لنفكر مثلاً بتداعيات أزمة الهجرة التي تشمل أعداداً كتلك التي تصل عموماً إلى اليونان وإيطاليا وتنجم عن ممارسات نظام عدائي.

لكن فضّلت الدول الثلاث مواجهة المشكلة بدل الاتحاد كله وأجبرت لوكاشينكو على التراجع... حتى الآن على الأقل! عمد الاتحاد الأوروبي إلى فرض العقوبات، لكن حتى أقوى العقوبات لا تزعج الأنظمة المستهدفة كثيراً، ومن المتوقع أن يجرّب لوكاشينكو مجدداً أداة أخرى لإرضاء غروره، ويجب ألا ينسى أحد أنه لم يحقق بعد وعده بإغراق الاتحاد الأوروبي بالمخدرات.

في مجال الدفاع، كما في الحياة عموماً، يسهل أن يتمسك الجميع بأساليبهم المألوفة، إذ يُشجّع تجار التجزئة عملاءهم دوماً على تجربة منتجات جديدة، وبين العامين 2000 و2009، أطلقت سلسلة المتاجر البريطانية الكبرى "سينسبري" حملة كاملة لتشجيع المتسوقين على "تجربة منتج جديد اليوم"، فكان تجاوب المتسوقين مع تلك الحملة كبيراً، فزادت العائدات بمعدل 3.3 مليارات دولار.

قد يكون شعار "تجربة منتج جديد اليوم" مفيداً للقادة بقدر المتسوقين، ففي المقام الأول، يحرص لوكاشينكو على تطبيق هذه المقاربة على أكمل وجه في خضم مساعيه لإيذاء الدول من حوله، وبدل استعمال الأدوات التي تتوقعها البلدان الأخرى، هو لا يكتفي باختبار المهاجرين واستعمالهم كسلاح بل يجرّب أيضاً قرصنة الطيران، كذلك، يجرّب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ تكتيكات جديدة ومختلفة، ولا شك أن القادة الآخرين سيقومون بالمثل، فقد جرّبت بولندا ولاتفيا وليتوانيا مقاربة جديدة أيضاً، فنشرت جنوداً جدّيين في مهامهم وجلبت أسلاكاً شائكة حين افترض لوكاشينكو أن المهاجرين لن يواجهوا إلا مقاومة بسيطة.

تستطيع الدول الغربية الأخرى أن تتعلم من تلك البلدان وتجرّب مقاربة مختلفة حين يستعمل لوكاشينكو إحدى حِيَله مجدداً أو عندما يقوم بوتين أو شي جين بينغ بالمثل، تقول أغنيسكا براغر، نائبة رئيس البوندستاغ من حزب "الخضر" الألماني: "استعمل الحاكم المستبد لوكاشينكو اللاجئين لخوض لعبة شريرة ووحشية بهدف كسب السلطة، ويجب أن يوضح الاتحاد الأوروبي أن محاولة الابتزاز هذه ستترافق مع عواقب خطيرة، ويعني ذلك أن يتضامن الاتحاد مع بولندا ودول البلطيق، ويتصرف بإنسانية مع الأشخاص المتجمدين على الحدود، ويفرض عقوبات صارمة ضد لوكاشينكو ونظامه، ومن خلال التوافق على نظام معيّن لتوزيع اللاجئين داخل الاتحاد الأوروبي، تستطيع الدول الأعضاء أن تُحبِط المخططات التخريبية كتلك التي ينفذها لوكاشينكو. سيكون بدء المنافسة مع الحكام المستبدين وانتظار الطرف المستعد لتخفيض معاييره قبل الآخر في ملف اللاجئين لعبة خطيرة ومؤذية وغبية".

في غضون ذلك، دعا نائب رئيس وزراء لاتفيا ووزير دفاعها، أرتيس بابريكس، إلى زيادة التضامن مع الدول التي تتأذى من الأعمال التخريبية، وقد لا تكون لاتفيا وليتوانيا وبولندا الجهات المستهدفة في المرة المقبلة، بل مجموعة مختلفة من الدول، فقد أضاف بابريكس: "يجب أن تُغيّر أوروبا الغربية خطابها لأنها تفتقر إلى الأسلحة في وجه العقول الإبداعية الناشطة في جهاز الأمن الفدرالي الروسي ومديرية الاستخبارات الروسية، في عملية اتخاذ القرارات، لم يعد إعطاء الأولوية للصواب السياسي بدل الوقائع الميدانية نافعاً".

لن يكون اللجوء إلى العقوبات القديمة والبالية كافياً اليوم، بل يجب أن تُلغى جميع التأشيرات لأصحاب السلطة دفعةً واحدة (كما فعلت سويسرا مع ليبيا حين احتجز الزعيم السابق معمر القذافي رجلَي أعمال سويسريَين بسبب استيائه من سويسرا). تبرز الحاجة أيضاً إلى حظر منتجات الرفاهية: تحبّذ النُخَب في الدول التي تحاول إيذاء الغرب بأي ثمن ارتداء ملابس من ماركات غربية مرموقة وحمل الأغراض في حقائب تحمل توقيع مصممين غربيين. يقال إن الاتحاد الأوروبي يعمل على ابتكار سلاح تجاري لمنع الدول التي تحاول إخضاع شركات الاتحاد من المشاركة في عقود أوروبية مربحة، لكن ما الذي يمنع استعمال هذا الحظر للرد على أعمال عدائية أخرى؟ وإذا استهدف نظام عدائي أي بلد، فقد تردّ الدول الأخرى نيابةً عنه، فلا يعرف المعتدي هوية من يواجهه قبل أن يصبح الرد قيد التنفيذ.

يقول "الدكتور سترينجلوف" في فيلم المخرج ستانلي كوبريك الذي يحمل الاسم نفسه إن "الردع يعني نشر الخوف من الهجوم في عقل العدو"، حيث أراد "الدكتور سترينجلوف" طبعاً أن ينشر الخوف عبر الأسلحة النووية، لكن حين يستعمل المعتدي المهاجرين أو دبلوماسية الرهائن أو أسلوب إخضاع الشركات، لن يُحقق التهديد باستعمال الأسلحة النووية شيئاً لأن المعتدي والمعتدى عليه يعرفان أن الطرف الذي يدافع عن نفسه لن يرد على الاعتداء بالرؤوس الحربية النووية يوماً.

لهذا السبب، افترض لوكاشينكو أن استعمال المهاجرين كسلاح بحد ذاته سيضمن له فوزاً سهلاً، ولكن لم تنجح بولندا ولاتفيا وليتوانيا في منع ذلك الفوز فحسب، بل إنها أهانت الدكتاتور مباشرةً وأجبرته على الاعتراف للمهاجرين الذين ينتظرون في بلده بأنهم لن يتمكنوا من عبور الحدود.

استفادت سلسلة المتاجر "سينسبري" من حملة تجربة المنتجات الجديدة، ونجحت هذه المقاربة أيضاً مع بولندا ولاتفيا وليتوانيا، وفي المرة المقبلة، قد تنجح الطريقة نفسها في ردع بوتين وشي جين بينغ، وحتى زعيم كوريا الشمالية المبدع على نحو جنوني، كيم جونغ أون.

*إليزابيث برو

Foreign Policy