في ظلال الدستور: سياسة تكويت الوظائف... نقاط فوق الحروف (2)
في تناولي لقضية تكويت الوظائف، يوم الثلاثاء الماضي، تحت العنوان ذاته باعتبارها قضية دستورية، تطرقت إلى نشأة هذا المسمى، بعد التحرير مباشرة، كأثر من آثار العدوان العراقي، الذي كان له آثاره السيئة في نفوس المواطنين تجاه الآخر العربي، وبرأت الشعب العراقي من جريمة صدام حسين البشعة، وهم المغلوبون على أمرهم، الذين كان يحكمهم صدام بالحديد والنار، كجزء من مشوار طويل بدأته منذ سنوات، لإعادة التآخي والتعايش مع الآخر، وبوجه خاص العربي في المجتمع الكويتي. وقد جاءتني على "فيسبوك"، رسالتان رقيقتان، إحداهما من ابني العزيز الأستاذ سعود الدويخ يستنكر هذه التبرئة، رأيت أن أفرد لها مقالا مستقلا لأهمية ما استند إليه، وإن خالفته الرأي في حجية هذا السند لأسباب ترجع إلى أزمة الديموقراطية في الوطن العربي، وإن كان لكاتب الرسالة بعض العذر لأنه يعيش في بلد، يتبوأ مكانة رفيعة من هذه الأزمة، وهو ما سأتناوله في المقال القادم إن كان في العمر بقية.
رسالة سامي الدريعأما الرسالة الأخرى الموجهة لي على "فيسبوك" أيضا، فهي من الأستاذ سامي الدريع، يتساءل فيها بأدب جم كيف فاتني، أن قانون الخدمة المدنية، يجعل الأصل في التعيين للمواطنين، وأن تعيين غير الكويتي استثناء من هذا الأصل، وأشكره على هذه الملاحظة، والواقع أنه لم يفتني ذلك، لأنني في مقالي المنشور في هذه الصفحة يوم الأحد 26 من ديسمبر الماضي تحت عنوان "تكويت الوظائف قضية دستورية واستعجال النتائج ثمرة فجة غير ناضجة"، ذكرت أن تكويت الوظائف، عن تحفظي عن المسمى، يستند إلى نصوص الدستور ذاته وهو أبو القوانين في المادتين (26) و(41)، فهل بعد هذا أعزز رأيي بقانون الخدمة المدنية، وهو أدنى مرتبة من الدستور، وقد صدر تنفيذا لأحكامه، وإذا وجد الماء بطل التيمم، ولكني على يقين من أنه لا يوجد مواطن كويتي واحد، على وجه الأرض مؤهل علميا وخبرة لتولي وظيفة عامة، يشغلها غير كويتي، بل إنني أنزه كل مسؤول كويتي عن أن يكون قد فاته هذا الأمر فأصدر قراراً بتعيين غير كويتي واحد، في وظيفة عامة تتوافر شرائطها القانونية، من حيث المؤهل العلمي والخبرة النوعية والزمنية في مواطن كويتي واحد، ليس في وظيفة مثلها أو أعلى منها، حقيقة يحاسبني عليها المولى عز وجل، إن كنت قد أخطأت فيها، ويحاسب المسؤول ديوان المحاسبة، ويقع تحت طائلة المساءلة القانونية والتأديبية إن ثبت هذا الفعل عليه، بل يقع وزيره تحت المساءلة السياسية في مجلس الأمة، إعمالاً لأحكام المادتين (100) و(101) من الدستور، وأمام صاحب السمو الأمير إعمالاً لأحكام المادة (131) من الدستور، لمخالفة الوزير أو المسؤول التابع له لأحكام الدستور.وكنت أول من أثار هذا السند الدستوري لقضية التكويت، رغم تحفظي عن هذا المسمى، لأن غير الكويتيين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه القضية، بل هم ضحية الكراهية، التي استخدم هذا المسمى لزرعها في المجتمع الكويتي، فهم يعينون استثناء، كما قال الأستاذ سامي الدريع بحق، ولضرورة عدم وجود من يشغل هذه الوظائف من الكويتيين، وفي كل إعلان لشغل وظيفة يذكر بأن الأولوية للكويتيين.الوظيفة العامة شرف لا ترف نعم الوظيفة العامة، كما عرفها الدستور، خدمة وطنية، المادة (26)، والعمل واجب وشرف للمواطن، المادة (41)، وليست ترفا وطنيا، أو غنما لا غرم فيه، بل عمل وتضحية، فلا تنهض أمة بغير سواعد أبنائها، وإن ما جرى عبر عقود طويلة من الزمان وحتى الآن من الاستعانة بالوافدين لملء الشواغر، وما أكثرها بالوافدين، إنما لسد احتياجات البلاد من الكوادر البشرية القادرة على حمل مسؤوليات هذه الوظائف، والمسؤولية أمانة، يقول المولى عز وجل "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا" والوطن هو أهل هذه الأمانة.وهو ما دعا إليه الأمير الراحل سمو الشيخ صباح الأحمد في نطقه السامي في مجلس الأمة، بمناسبة العشر الأواخر من شهر رمضان من السنة الهجرية 1422، والذي دعا فيه المواطنين إلى العمل والتضحية، قائلا بأن "الذين يعاملون الوطن على أنه كنز يؤخذ منه فقط، يوشكون أن يكونوا أعداء لأنفسهم ولذرياتهم من بعدهم". وقد جاء في مؤلف الأخ العزيز الدكتور عبدالمحسن جارالله الخرافي في منظومة القيم الإسلامية (الواجبات قبل الحقوق) بأن تقديم الحقوق على الواجبات قيمة إسلامية وإنسانية، وهو أمر نعانيه في بلادنا، وهو من أسباب تخلفنا عن الركب، على عكس الآخرين الذين يتمتعون بثقافة تعتبر من البدهيات، ولذلك تقدموا وأتقنوا وأصبحت بقية البلاد العالم عالة عليهم وعلى منتجاتهم... وعلى الموظف مهما بلغت درجته الوظيفية ألا يوغل في التمحور حول ذاته فيرى الحق من زاويته فقط.ويضيف الدكتور الخرافي في كتابه القيم سالف الذكر "وأن كثيراً من الموظفين ينشغل فوراً باستلامه العمل بجمع أكبر قدر يستطيعه من امتيازات سواء كانت مكافآت أو انضماما إلى لجان الترقية الوظيفية، قبل أن يعرف العمل الموكل إليه، وقبل أن ينجز شيئا مذكوراً، وكأن العمل مجرد غنيمة غافلا عن كونه أمانة إن ضيعها فقد ضيع نفسه".وإذا كان النفط هو عبقرية المكان فإن الإنسان عبقرية الزمان القادر على التفكير والخلق والإبداع، ليعوض بقدراته ما نفد من مخزون النفط، ولينمي بها ما بقي من هذا المخزون، ليصبح النفط داعماً لنشاطه وإبداعه، بدلا من أن يكون عامل نحر يأكل الجد والصبر والمثابرة التي كان عليها الرعيل الأول، فتشيع آفات التواكل والاعتماد الكامل على الدولة في كل متطلبات الحياة.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.