إعادة كتابة العقد الاجتماعي (7) صراع العصبيات العربية
العصبيات العربية داء مستحكم، جاء الإسلام لتحجيم جانبها السلبي المتمثل في قصيدة الشاعر قريط بن أنيف مفاخراً: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحداناًلا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً
وبيت دريد بن الصمة: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد وسعى بتعاليمه إلى توظيف جانبها الإيجابي المتمثل بالتعاون على الخير والبر والإحسان والعمران ونشر دعوة الإسلام وحماية دولته الوليدة والدفاع عنها باعتباره جهاداً في سبيل الله، ونجح الرسول، عليه الصلاة والسلام، إبان فترة حياته في ترويض (العصبية العربية) وتحويلها إلى طاقة إيجابية فاعلة في تأمين دولة الإسلام الأولى داخل الجزيرة العربية في مواجهة قبيلة قريش والقبائل المتحالفة معها، أو خارجها في مواجهة عنجهية الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية اللتين كانتا تستصغران العرب وتنظران إليهم كأتباع، تتعاملان معهم عبر وكلائهم المناذرة والغساسنة. لكن بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، عاد العرب إلى عصبياتهم، فتنازعوا وتفرقوا، فهي أصل الداء العربي، وكل تشخيص لهذا الداء قديماً وحديثاً يتجاهل العصبية هو تشخيص للعرض والمظهر لا الأصل والجوهر.إن غلو العصبيات وراء كل أشكال المظالم والعنف والاستبداد والصراعات الدموية على السلطة ومغانمها، وهي أصل كل ما وثقه "ديوان العرب" مما سمي "المفاخر والمثالب"، أي الفخر بالقبيلة وهجاء القبائل الأخرى، وكل هذا البلاء الذي فرق العرب وأضعفهم في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، يرجع إلى جوهر واحد هو صراع العصبيات. ما العصبية؟ العصبية توليفة متفجرة من الغرائز الأولية للإنسان البدائي، هي مزيج من مشاعر (الخوف) و(الحقد) و(الحسد) و(الطمع)... الخوف من قوة الآخر، والحقد عليها، ثم الحسد والرغبة في تجريده من مصادر قوته، والطمع في الاستيلاء عليها، طبقاً للدكتور جان نعوم طنوس في كتابه الرائع (تفكك الدولة الوطنية: صراع العصبيات في العالم العربي) بيروت 2018، وللقارئ أن يتساءل: أليست العصبيات منتشرة آيضاً عند الأمم والشعوب الأخرى قديماً وحديثاً، فلماذا تخصيصها بالعرب؟لا نكران لذلك، وفي مقالة سابقة قلت: إن العصبيات داء البشرية الأكبر، وكل أمم الأرض كانت محكومة بها لا العرب وحدهم، وقد سقط ضحايا كثر نتيجة صراع العصبيات الأممية، وأضيف هنا للحقيقة والتاريخ: إذا كانت أعداد الضحايا الذين سقطت بسبب صراعات (العصبيات العربية) سواء من أنفسهم أو من غيرهم وعبر تاريخهم تعد بالآلاف، فإن أعداد ضحايا "العصبيات الأممية" الغربية والآسيوية والصينية واليابانية والإفريقية والأميركية العرقية منها والدينية والمذهبية، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية تعد بالملايين، أي لا يوجد أدنى مقارنة، وحتى اليوم هناك أشكال من العصبية حتى العنصرية موجودة وقوية حتى عند الأمم المتقدمة، واليمين الأوروبي المتطرف يزداد شعبية ويلقى تأييداً وقد أصبح مشاركاً في الحكم والتشريع في أوروبا.لكن الفرق بيننا وبينهم، أن تلك المجتمعات، المتقدمة منها، تعترف بوجود وانتشار (العصبية) في مجتمعاتها، ولا تحاول أن تنكرها أو تخفيها (أولاً) ولا تستنكف أن تعلن أنها داء (ثانياً) وتعمل على بحثها ودراستها وتتبع أسبابها بحسب المنهج العلمي (ثالثاً)، وتقوم مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع التشريعية والإعلامية والتربوية والثقافية على إزالة مسبباتها ومكافحتها (رابعاً). لذلك نجحوا في الحد من آثارها عبر تفعيل (المواطنة) المتساوية، وسيادة (حكم القانون) وزرع القيم المدنية في نفوس الناشئة وخلق مؤسسات قانونية واجتماعية: منظمات المجتمع المدني، الصحافة الحرة، القضاء المستقل، تفزع لنصرة حقوق الأقليات الدينية والعرقية والضعفاء والمهمشين والمظلومين والمتضررين، ضحايا التمييز العصبوي، كل أجهزة وقوى المجتمع والدولة تفزع لمساندة الحقوق والحريات في عملية توازن مدهشة بين قوى العصبيات وقوى المجتمع المدني.لكن كل هذا الأمر لا يحصل عندنا، بل هناك من يتفاخر بعصبيته ويراها امتيازاً، فكيف يمكن تحجيم العصبويات في مجتمعاتنا؟! يتبع،،،* كاتب قطري