رحم الله الديموقراطية
يؤسفني القول إن كثيرين يقفون في تعريفهم للديموقراطية عند مسألة "حرية الانتخاب"، دون أن يربطوها بأمور أخرى كثيرة، رغم أن تلك الأمور واضحة تماماً للعيان، فالانتخابات ليست أكثر من تحصيل حاصل بالنسبة إلى إتاحة فرص التنافس في شُغل الوظائف الحكومية للأغلبية الفائزة، والتي هي من حق أي مواطن مؤهل لشغلها، بناء على ما تحدده القوانين.وهناك الكثيرون ممن يتحدثون عن ضرورة الربط بين الحرية الاقتصادية، والمحافظة على العادات والتقاليد، نظراً لأن تلك التقاليد تحتاج إلى محافظة على أوضاع قديمة من التعامل في إطار تنظيمات جديدة، ويجب أن يتم النظر إلى بعض الأفراد، كأشخاصٍ متحدّرين من أسرٍ خاصة، أو قبيلة معيّنة، وغير ذلك من الأمور، بينما تحتاج آفاق الحرية الاقتصادية أخذاً بالوسائط المستحدثة وتطبيق أنظمة التمويل التي لا يعرف الأسلاف شيئاً عنها، ولن تجد في النصوص التي ورثناها عنهم شيئاً يحلّ المشكلات الراهنة بصورٍ حاسمة.ورغم عدم اختلاف الكثيرين على المطالبة بالديموقراطية، وما هو ديموقراطي وما يتصل بقوانين الديموقراطية، فإن التعاريف التي ظهرت في أثناء كتابات البعض منهم للديموقراطية تشير إلى أن بعض الدكتاتوريين كانوا عادلين، بل إنهم كانوا ديموقراطيين خلال فترات حكمهم، وإن لم يكونوا يعرفون شيئاً عن الديموقراطية، ويتم الاستشهاد بحالاتٍ فردية، وفتح أبواب بعض الحكام للناس، وما شابه ذلك.
*** ومما يؤسفني أكثر أن هناك مَن يردد "إن شعوبنا غير مستعدة، أو غير مؤهلة بعد للديموقراطية"، وهناك الكثير مما يمكن أن يقال للرد على مثل هذا الهُراء. فالديموقراطية منذ قرون قبل الميلاد كانت ممارسة دون أن يكون هناك منظّر لها، وكانت فعلاً تطبيقياً، قبل أن تصبح على يد فلاسفة كبار أمثال أرسطو في "السياسات"، وجان جاك روسو في "العقد الاجتماعي"، حيث كتبوا وغيرهم عن ظواهر مجتمعية بعينها، وأدلوا بآرائهم لوضع نظريات في الديموقراطية، قابلة للتحسين، والتطور وإعادة الاختيار، ولم يخترعوا - بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة - شيئاً جديداً، لا وجود له.لكن ظهر ما يُسمّى في الممارسات الخاطئة للديموقراطية ما أطلق عليه "الديماغوجية"، وهو الذي شاع في بلداننا - مع الأسف - وعلى سبيل المثال:يتم - ديموقراطياً - تطبيق تقاسم السلطات في المراكز الحكومية بين مجموعاتٍ من الأعراق، والقبائل، أو النِّحَل والطوائف، ويتم بموجبه احتكار المكاسب لها ضمن تركيبتها التلفيقية المصلحية، ومن أجل فئات أو أشخاص مُحددين بعينهم، فهذا يؤلم المتابع المدقق الذي لا يملك غير الاستسلام لمقولة "الشعب غير مُستعد للديموقراطية" وربما ستكون الإجابة المختصرة والصريحة على الذين يرددون مقولة عدم استعداد الشعب لتقبُّل الديموقراطية واضحة جداً في الأعداد المهولة من أولئك الذين تولّوا المناصب الحكومية، وهم لم يكونوا مؤهلين لها، وكيف كانوا نماذج كارثية، حيث تركوا تاريخاً من المخازي في التجاوزات، والرشا، والسرقات، والتحزّب لأبناء قبائلهم، أو طوائفهم... لكي تُشاع مقولة عدم صلاحية الديموقراطية... ووالله لو تم الالتزام بالديموقراطية الحقيقية، لكانت منطقتنا تُعد هي الأرقى بين الأمم!