تراجيديا البدون... إلى متى؟

في غمار مأساة انتحار شاب من «البدون» غرقاً أُعيد نشر ما سبق لي نشره قبل سنوات عندما انتحرت فتاة بمنديلها من الفئة نفسها، فالله تعالى يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ". لكن جهازنا الثقافي المتعالي مرتكز على النظرة الدونية لكل من لا ينتمي إلينا، الأمر الذي يجب معه، على من يريد أن ينال رضانا واستحساننا، أن يتماهى مع نموذجنا الحاوي لهجتنا وعاداتنا ومسلكياتنا، وإلا فهو ذو هوية لقيطة لا أصل له ولا فصل.

لم نكتف بذلك، فقد ألبسنا البدون لباس العار، فتراهم في حالة هروب من نظراتنا، واختباء دائب من ابتساماتنا الساخرة، لا توجد أبشع من صفة البدون حين تلتصق بالشخص، ولا يدري كيف ينخلع منها وتنقلع منه، نقلبهم على أسياخ العذاب النفساني لتشوي قلوبهم على جمر همزنا ولمزنا وضحكاتنا الساخرة، فوصلوا الى حالة فضلوا عندها ظلمة اللحود، فأقدم بعضهم على الانتحار... هل سمعتم عن تلك الفتاة التي خنقت نفسها بمنديلها؟ لم تسمعوا بها ولم يؤذ سمعكم عويل أهلها، أو حتى نشيجهم. أتعرفون لماذا؟ لأن أهلها دفنوها في الخفاء لئلا تشيعها نظراتنا الهازئة وهمهماتنا الساخرة، لقد دفنت بصمت في رمال الصمت، وهل سمعتم عن ذلك الطالب الذكي الفذ الذي يحلم بدخول الجامعة، فلما أبلغوه أنك بدون، ولا أمل لك بدخولها تشنّج وعض لسانه ليخر ميتا؟ أحدهم حرق نفسه عندما لم يجد اسمه في قائمة التجنيس الأخيرة، مآسٍ تفلق القلب... أظن لولا التواطؤ، وربما التحريض منا لما استمر وضع البدون إلى هذا اليوم.

إن المواطَنة ببساطة، كما عرِّفت، هي مجرد أن يقبل فرد ما الاندماج في مجتمع الخضوع لقانونه ودفع الضرائب والدفاع عن أمنه الخارجي والإسهام في ترقيته وتطويره.

في حال التشكيك في مواطنة فرد ما، فإن ذلك يعني العمل على خلخلة علاقة الولاء للوطن، وهي شبيهة بتشكيك الأب في انتماء أحد أبنائه له، لأن ذلك سيجفف كل مشاعر الأبوة والولاء، ومن ثم الرعاية والحماية، فضلا عن تأريث نار الكراهية لهذا الابن، حيث يتحدث البعض عن ذوبان الهوية في حال تجنيس عشرات الآلاف من البدون، في مقابل مجتمع يعد بمئات الآلاف، نقول أيّ هوية هشة هذه التي ستتهافت أمام نسبة قليلة من هؤلاء البدون؟

يقولون ذلك، وكأن البدون نازلون من كوكب جديد، وليسوا هم أبناء البلد، وقد مضت عليهم عشرات السنين، وولد الكثير منهم في الكويت، ثم هل نسي هؤلاء العولمة بأدواتها الممثلة في انتشار الفضائيات والإنترنت وما تحمله من مسح الهويات بحمضها الأكّال، وتغيير شباب المجتمع دامجةً إياهم في مفاهيم ومسلكيات الغرب؟

أخيرا، ليس لنا حديث إلى ضعيفي الإيمان والفسقة ممن يسخرون من البدون بأي نوع من السخرية، فهؤلاء إن لم يتوبوا، فلهم الخزي في الدنيا والآخرة، فالمتكبرون يحشرون كالذَّر، أي صغار النمل يوم القيامة تسحقهم الأقدام، والأمر الذي يجب أن يتم هو سن قانون يجرم أي تشكيك في ولاء فرد يحمل الجنسية الكويتية.

في مجتمع تسوده هيبة القانون وسيادته، وتتوافر فيه كل مقومات التحضّر التي يشعر معها الفرد بإنسانيته وحريته، يكون الولاء مطلقا للمجتمع حتى من الأفراد الذين مضى على تجنيسهم بضع سنوات، وما عدا ذلك فهو التشظي والتلاشي، والويل لمجتمع يصيخ السمع لعجائز وشيوخ متهدمين قد نخر عقولهم الخَرَف وتوقف وعيهم، وتسمّرت مشاعرهم في دائرة العداء للبدون، فيمارسون بطولات دونكشوتية حتى تجدهم لفرط خرفهم يصارعون طواحين البدون، فاقدين وقار الشيخوخة وحكمة الكبار، وبدلا من أن يكونوا مصدرا للهزء والضحك، نجد من يمجد فعلهم الذي يشجبه كتاب الله، وتتأفف منه روح العصر... فاللهمّ غوثك.

● ناجي الملا